أميركا وتحالفاتها العجيبة.. إلى أين؟
بدأت أميركا فكرة التحالفات الإقليمية والدولية، ذات الأهداف العسكرية المحددة والموقوتة، بداية التسعينيات من القرن الماضي في أعقاب غزو صدام حسين الكويت، والذي ترتب عليه خلل جسيم في البيئة الأمنية للشرق الأوسط وتوازناتها، وقررت أميركا توجيه ضربة عسكرية لصدام حسين، تحرر بها الكويت، وتعيد التوازن إلى المنطقة، طبقاً للمعايير الأميركية التي لا تسمح لأي قوة إقليمية، عدا إسرائيل، بتجاوز حدودها عسكرياً، من دون مباركة أميركية، ولأهداف تحقق مصلحة أميركية. وكان على أميركا أن توفر غطاءً عربياً وإقليمياً لدخول قواتها الأراضي العربية، وشن حربها مزدوجة الأهداف، تحرير الكويت وتوجيه ضربة عسكرية للعراق ونظام صدام حسين. وكان السبيل إلى ذلك الدعوة إلى تكوين تحالف إقليمي ودولي عسكري، وحشد القوات المشاركة في المملكة العربية السعودية، تحت القيادة العملياتية لأميركا والقيادة الرمزية لمسرح العمليات للسعودية، وأطلقت على العملية اسماً رمزياً هو عاصفة الصحراء. وأبرز الدول العربية التي شاركت بقوات رئيسية في ذلك التحالف كانت مصر وسورية، والسعودية التي انطلقت العمليات من أراضيها، بالإضافة إلى عشرات الدول التي سارعت للمشاركة في التحالف، طمعاً فيما سيعود على المشاركين من فوائد كانت مرتقبة، تحققت بعد انتهاء العمليات.
كان ذلك أول تحالف من هذا النوع العجيب، الفعل العسكري الرئيسي لأميركا وآلتها العسكرية الفائقة القوة والتطور، والاسم للتحالف الإقليمي أو الدولي. كان ذلك في عام 1991، عندما انطلقت عاصفة الصحراء، ولم تهدأ إلى يومنا. ولم تمض عشر سنوات، حتى وقعت عملية 11 سبتمبر 2001 الإرهابية التي ضربت برجي التجارة في نيويورك ومقر البنتاغون في واشنطن، لتعلن أميركا حربها العالمية ضد الإرهاب، وتدعو، مرة أخرى، إلى تحالف دولي لخوض هذه الحرب، وأطلقت شعارها الشهير "من ليس معنا فهو ضدنا". وبعد شهر، انطلقت الحرب على أفغانستان التي كانت تحت حكم طالبان، الحاضنة الرئيسية لتنظيم القاعدة المتهم بأنه كان وراء تلك العملية. وكانت الحرب على أفغانستان، وما زالت، باسم التحالف الدولي، بينما الفعل الرئيسي، أيضاً، لأميركا.
ولم يمض عامان على التحالف العجيب الثاني، حتى كانت أميركا تدعو إلى تحالف عسكري دولي جديد، كان، في تلك المرة، بهدف غزو العراق واحتلاله، وإسقاط نظام صدام حسين، وكل النسق السياسي والاقتصادي، والبنية المؤسسية للدولة العراقية، وتكون التحالف، وانطلقت القوات لعملية الغزو في فجر العشرين من مارس/آذار 2003، وأيضاً، كان الاسم للتحالف، بينما الفعل الرئيسي لأميركا.
هذه ثلاثة نماذج للتحالفات الأميركية العجيبة في نحو ربع قرن، وكل تحالف منها ترتبت عليه حرب مفتوحة، توابعها مستمرة في أفغانستان والعراق، وفي كل المنطقة التي أصابها التصدع الشديد، سواء كانت الشرق الأوسط الكبير، أو الشرق الأوسط القديم، أو حتى الشرق الأوسط الجديد، فلا أفغانستان بعد ثلاثة عشر عاماً من الحرب على طالبان والقاعدة، تخلصت من طالبان، ولا تم القضاء على القاعدة. ولا العراق بعد أحد عشر عاماً من الحرب أعاد صياغة نظامه السياسي أو تخلص من الطائفية، والأهم من ذلك كله أن هذه التحالفات الأميركية العجيبة، إقليمية أو دولية، لم تنجح في القضاء على "اللهو الخفي" الشهير بالإرهاب، على الرغم من جهود أربعة رؤساء أميركيين وأربع إدارات بين جمهورية وديمقراطية. وأخيراً، يأتي الرئيس، باراك أوباما، الديمقراطي الذي ملأ الدنيا بتصريحاته الجريئة عن سحبه القوات الأميركية من العراق وأفغانستان، وعن اعتزامه غلق معتقل غوانتنامو، وعن إلغائه مصطلح "الحرب على الإرهاب" وشعار "من ليس معنا فهو ضدنا"، ويخرج علينا بدعوة جديدة إلى تكوين تحالف إقليمي ودولي جديد، وللهدف نفسه الذي تكونت لأجله تحالفات أسلافه العجيبة، محاربة الإرهاب. وقرر إيفاد وزيري خارجيته ودفاعه في جولة إلى الشرق الأوسط، ليدعو دولها إلى تكوين تحالفهم العجيب الجديد تحت شعار "هيا بنا نحارب الإرهاب"، وهذه المرة، الإرهاب اسمه داعش، أو تنظيم الدولة الإسلامية.
بدأت دول المنطقة تعلن انضمامها لهذا التحالف الجديد، الأكثر عجباً مما سبقه من تحالفات. والدعوة، تأتي في ذكرى "11 سبتمبر" الثالثة عشرة، إلى تحالف واسع النطاق، من دون أن تحدد بدقة ماذا على تلك الدول، وهي عشرات، أن تفعل. هل عليها أن تجيش الجيوش وتشد الرحال إلى أرض الرافدين، تسأل عن الطريق إلى محافظات نينوى والرمادي التي يسيطر عليها داعش، لتقتحمها وتحررها، وتسلمها لحكومة حيدر العبادي في بغداد. ومن سينسق بين عشرات الجيوش، ومن سيتولى قيادتها، أم أن المطلوب تمثيل رمزي مشرف، ينضم لقوات الغزو الرئيسية القادمة عبر المحيط والسموات البعيدة، أم تقديم خدمات لوجستية واستخباراتية، أم المطلوب غطاء عربي وإقليمي ودولي؟ وغطاء لماذا بالضبط؟ بينما تعلن أميركا نفسها أنها لن ترسل قواتها، ثانية، إلى المنطقة؟ وهناك أمر آخر، هو أن لداعش امتداداً ووجوداً قوياً لدولته في مناطق مهمة من سورية، وصل إلى حد السيطرة على محافظات كاملة، مثل الرقة، فكيف سيتم التعامل مع دولة داعش في سورية؟ هل بالتنسيق مع نظام بشار الأسد؟ أم بالتنسيق مع حزب الله الذي يقاتل داعش في سورية، أم مع إيران، أم جبهة النصرة المحسوبة على القاعدة؟ وهل ستشد جيوش التحالف الجديد العجيب الرحال إلى أرض الشام، لتسأل عن الطريق إلى محافظة الرقة وغيرها من الأراضي التي يسيطر عليها داعش، لتقتحمها وتحررها من داعش، ثم تبحث عمن تسلمها له في سورية؟
يبقى السؤال: ماذا يريد أبونا الذي في واشنطن من دعوته إلى هذا التحالف الجديد العجيب، والذي يلتقي بشأنه وزراء خارجية دول عربية، منها مصر والسعودية ودول الخليج، وأيضاً تركيا، ومن المفارقات أن الاجتماع في 11 سبتمبر! ومن المستغربات أن يضم تحالف للحرب أطرافاً بينها خلافات وتعارضات حادة، مثل الذي بين النظام المصري وكل من تركيا وقطر من ناحية أخرى.
ولعله من المثير أن تواكب الدعوة الأميركية للتحالف العجيب دعوة أخرى لتحالف أكثر عجباً، وللهدف نفسه، لكنه يضم محوراً آخر يشمل روسيا وإيران ونظام بشار في سورية.
قد تُفلح هذه التحالفات العجيبة في ضرب تنظيم داعش، كتنظيم، أو إضعافه، لكنها قطعاً لن تقضي على "اللهو الخفي" المسمى الإرهاب، لسبب بسيط، هو أن الإرهاب مثل الفقر ليس رجلاً، وإلا قتله الإمام علي، رضي الله عنه، كما تمنى. ولكن، لكي تقضي على الفقر، وكذلك على الإرهاب، لا بد من القضاء على الأسباب أولاً. الإرهاب نتاج طبيعي للظلم والقهر. هو الابن الشرعي لنظم الحكم الشمولية والسلطوية والقسرية، والتي تمتهن كرامة الإنسان وتسلبه حقه الطبيعي في حرية الاختيار، فهل يدرك الجالس في البيت الأبيض هذه الحقيقة، حتى يسعى إلى تشكيل تحالفاتٍ أكثر إيجابية ومنطقية، تسعى إلى دعم الديمقراطية، وسيادة القانون، وحقوق الإنسان، فيبتعد الإنسان عن التطرف والإرهاب؟