أميركا كلّها تبدو كأنّها "لا تستطيع أنْ تتنفّس"

أميركا كلّها تبدو كأنّها "لا تستطيع أنْ تتنفّس"

03 يونيو 2020
باركر ولي: من منكم "يستطيع أنْ يتنفّس"؟ (باراس غريفّن/Getty)
+ الخط -
مقتل الأفروأميركي جورج فلويد (46 عاماً) في مينيابوليس (25 مايو/ أيار 2020)، يُذكِّر بمقتل الأفروأميركي إيريك غارنر (44 عاماً)، والد 6 أطفال، في نيويورك (17 يوليو/ تموز 2014). صرخة غارنر، "لا أستطيع التنفّس"، تُصبح لاحقاً شعار تظاهرات السود في أميركا واحتجاجاتهم. صرخة ينطق بها فلويد أيضاً أثناء تعرّضه لعنفٍ عنصري من شرطي أبيض، تماماً كحالة غارنر. دقائق قليلة (9 دقائق قبل أنْ يلفظ فلويد أنفاسه) كافيةٌ لاندلاع تظاهرات غير خالية من عنفٍ يُعبِّر، أساساً، عن غضب السود إزاء تمادي البيض في عنصريتهم.

المشهد مُتداول في وسائل تواصل مختلفة (صورة فوتوغرافية أو شريط فيديو). التذكير بغارنر نابعٌ من تشابه الحالتين/ الجريمتين. "لا أستطيع التنفّس" عنوان أغنية "راب" للنيجيري الأصل "داكس" (دانيال نُواسو)، صادرة في ألبوم I’ll Say It For You (مارس/ آذار 2020). الأغنية ـ القصيدة انعكاسٌ لواقع ضاغط، ولألم غير منتهٍ، ولغضب مستمرّ. هذا لا علاقة مباشرة له بمقتل غارنر، علماً أنّ مقتل فلويد لاحقٌ عليه. لكنّ الحالة العامة جزء من عيشٍ يومي لملايين السود في بلدٍ يأتي برئيس أسود (باراك أوباما) للمرّة الأولى في تاريخه، من دون أنّ يتمكّن الرئيس الأسود نفسه من إحداث أي تغيير في بنية تفكير يصنع ثقافة استعلاء تاريخي، فالتفكير والثقافة متجذّران في تربيةٍ وسلوك ونمط عيش، وهذا أقوى من رئاسةٍ، وإنْ تمتدّ الرئاسة ثمانية أعوام (2009 ـ 2017).

فشلٌ كهذا يُشبه فشل السينما الأميركية المعنيّة بـ"السردية السوداء" (إنْ يصحّ التعبير) في إحداث تغيير، ولو قليل. لكن السينما، وبعض نتاجها عنصريٌ، غير هادفةٍ إلى تغيير، بل إلى قولِ وقائع وتفاصيل، يحاول مخرجون عديدون توثيقها في أفلامٍ، يمزج بعضُها الكوميديا الساخرة بمرارة الواقع والحياة، ويذهب بعضُها الآخر إلى تعريةٍ ما لذاكرة وماضٍ. سينما الثقافة العنصرية الأميركية حاضرة بقوّة، تُقابلها سينما تفضح وتُعرّي وتقول مغايراً. وإذْ تبلغ هذه السينما ما يُفترض بها أنْ تبلغه، كالحثّ على التأمّل والتفكير وطرح الأسئلة (هذا أساس اشتغالات السينما)، فإنّ التغيير صعبٌ، كي لا يُقال إنّه مستحيل لحاجته الماسّة إلى ما هو غير سينمائيّ.

في سياقٍ كهذا، يُظهر كوينتين تارانتينو (الأبيض) وجهاً آخر للأفروأميركي (الأسود) في زمنٍ قديم (دجانغو غير المُقيَّد، 2013). يقول إنّ بعض السود منافقٌ ومخادع وكاذب، يتزلّف للأبيض محتقراً الأسود، وهما (الأفروأميركيان) "ضحية" عنصرية الأبيض، وإنْ يُظهر الأخير تعاطفاً مع ضحاياها، إما تعالياً عليها، أو تصنّعاً بتحرّر ما، أو رغبة في الاختلاف، في لحظة عاجزة عن تغيير ثقافة وتربية وسلوك (1858). نايت باركر (الأسود) مُختلف تماماً. يمثِّل في نسخة نقيضة لـ"ولادة أمّة" (1915) للمخرج دي. دبليو غريفيث، في فيلمٍ يحمل العنوان نفسه، يُخرجه هو عام 2016، كاشفاً فيه جانباً من التاريخ الدموي للبيض بحقّ السود (1831).

صورة اختناق جورج فلويد تحت ركبة الشرطيّ ديريك شوفان تُذكِّر بما يُشبهها في أفلامٍ سابقة. إدوارد نورتن أحد مجسّديها سينمائياً، بتأديته شخصية عنصريّ نازيّ يُدعى ديريك فينيار (أإلى هذا الحدّ يصل التشابه، عبر اسم "ديريك"؟) يُلقي القبض على شابٍ فقير أسود يحاول سرقة سيارته. يضربه مراراً أمام شقيقه دانيال (إدوارد فورلنغ)، المتأثّر به وبأفكاره النازية العنصرية كثيراً. في نهاية الضرب، يُجبره على فتح فمه على حافة الرصيف، ويضرب رأسه بقدمه ضربة قاضية. العنف متشابه. طريقة القتل تعكس كراهية لا مثيل لها. النازيّ فينيار لن يمنح ضحيته وقتاً ليصرخ: "لا أستطيع التنفّس". يريد جثة بين يديه. ديريك شوفان يُريد، هو الآخر، جثة بين يديه، لكنّه شغوف بالتعذيب أكثر. النازيّ يُدرك أنّ الوقت لن يكون في صالحه، فرجال الشرطة قادمون. ديريك شوفان هو "الشرطة"، والشرطة الأميركية البيضاء لن تكون في "خدمة الشعب"، إنْ يكن الشعب أسود البشرة، أو منتمياً إلى أعراقٍ أخرى غير العرق الأبيض. لكنّ ديريك فينيار يخرج من السجن متحرّراً من أفكاره القاتلة. تُرى، أيدخل ديريك شوفان السجن أصلاً؟

نايت باركر يُعبّر عن تلك الثقافة العنصرية، المتوغّلة في النفس والروح والسلوك، بطريقة أخرى. عام 2019، يُنجز "جِلْد أميركي" American Skin، يؤدّي فيه دور جندي سابق في البحرية الأميركية، يُقتَل ابنه المراهق أمام عينيه برصاص شرطيّ أبيض متوتّر. يُقرّر الانتقام. يلجأ إلى أصدقاء (بعضهم أبيض البشرة) يُشاركونه غضباً وكراهية ضد العنصرية، وضد سلوك أميركا إزاء أبناء كثيرين لها، ومنهم بيض البشرة أيضاً. يحتلّون مقرّ الشرطة، ويجعلون سجناءه ـ المنتمين إلى أعراقٍ وثقافات مختلفة ـ أعضاء في لجنة لمحاكمة رجال الشرطة البيض، وبينهم "قاتل" المراهق. أهمية الفيلم كامنةٌ في الحوارات الدائرة داخل مقرّ الشرطة. فيلم قاسٍ بنصّه الذي يُعرّي ويفضح كأنّه "يحاكم" انطلاقاً من وعي الجميع فداحة الواقع، والتعرية/ المحاكمة تُصيب بلداً ومجتمعاً وثقافة، وتدفع الشرطي الأبيض إلى اعترافاتٍ نابعة من وضع لا يُحتَمل، ومن تراكمات تؤدّي إلى مزيدٍ من توتر وعنفٍ وجرائم عنصرية. النهاية أحَدّ وأقسى: يبدو أنّ البلد والمجتمع لن يتغيّرا... أبداً.

لا إدانة بل تعرية، وهذا كافٍ. لا أحكام ولا هوس بثأر انفعالي، وهذا مطلوب. "جِلْدٌ أميركي" يفَضح بكاميرا سينمائية تقول شيئاً من سيرة جماعةٍ، يُشكِّل جورج فلويد فرداً منها، ويدفع ثمن ثقافتها. سبايك لي لمّاح وغاضبٌ في أفلامٍ تروي شيئاً من تلك السيرة، وإنْ بشيء من السخرية المرّة. ستيفن سبيلبيرغ يؤرِّخ سينمائياً بعض المؤرَّخ والمغيَّب (آميستاد، 1997).

رغم هذا، ورغم أفلامٍ أخرى وكتبٍ وأغنيات وأعمالٍ مختلفة، تبدو أميركا، هي نفسها، كأنّها "لا تستطيع أنْ تتنفّس".

المساهمون