16 يونيو 2025
أميركا .. صورة مغايرة
funnybank
يظن كثيرون في العالم العربي أن الولايات المتحدة الأميركية ليست فقط قوة عظمى، والدولة الأكثر تأثيراً وهيمنة على مقدرات الأمور، بل هي قوة خارقة، غير قابلة للهزيمة أو الاختراق. فقد نجحت الآلة الإعلامية الأميركية، منذ ستينيات القرن الماضي، في رسم صورةٍ مثاليةٍ لكل ما هو أميركي: المواطن، السيارة، نمط الحياة، القوة العسكرية، إلى غير ذلك من مفردات الصورة الذهنية عن النموذج الأميركي. وكأن واشنطن لا يأتيها الباطل من بين يديها، ولا من خلفها، وربما إذا أرادت شيئاً تقول كن فيكون.
ومن أسفٍ أن تلك النظرة انعكست في إدراك بعض الساسة والحكام وسلوكهم، فصاروا يتعاملون مع الولايات المتحدة من وضعية دونية، وبمنطلقٍ تابعٍ مسيّر، لا ندّ مخيّر. لا شك في أن وراء ذلك النمط العبودي أسباباً كثيرة، تتعلق بأخطاء ومثالب ذاتية في السياسة العربية. لكن الثابت، أيضاً، أن الولايات المتحدة الأميركية لم تكتف يوماً بالاستفادة من أخطاء الآخرين في فرض إرادتها، وإنما كانت، دائماً، حريصةً على عدم إظهار أخطائها وإخفاقاتها. وكثيراً ما نجحت في تصدير مشكلاتها، وتحميل سوء تقديرها أطرافاً أخرى. مثلاً، واشنطن هي التي تبنّت أسامة بن لادن ودعمته في مواجهة الاحتلال السوفييتي لأفغانستان. وبعدما أدى مهمته، وظن أن في وسعه تحويل قبلة جهاده غرباً، لم تقف واشنطن عند اعتبار نشاط "القاعدة" إرهاباً، وإنما حمّلت مسؤولية ذلك للسعودية، وغيرها من البلدان التي ينتمي إليها بن لادن ورفاقه. وراحت تروج أن القهر الاقتصادي والكبت الاجتماعي وأنماط التعليم ذي الصبغة الدينية تشكل معاً بذور الإرهاب، فضلا عن حصر كل عنف سياسي، أو عملٍ مسلح يطال مصالح غربية، في الإسلام والمسلمين.
ولا حاجة لإيضاح أن واشنطن، بذلك، تغالط خطاياها وتتنصل منها. فبن لادن ورفاقه ليسوا نتاج عوز اقتصادي. والتعليم الديني، أو المحافظ، هو السائد في كل الدول الإسلامية. بل إن جهاديين كثيرين يتدفقون للقتال دفاعاً عن الدين، أو لمواجهة قمع سياسي (كما في سورية) هم من جنسيات غربية، أي من بني جلدة من ينسبون الإرهاب دائماً للعرب والمسلمين فقط.
أخطاء واشنطن أعمق وأوسع نطاقاً من ملف العنف السياسي، أو الجهاد المسلح. فالعلاقة بين الأميركيين والعالم، بشكل عام، تعاني من خللٍ جوهريٍّ مركب في الإدراك الأميركي للذات وللعالم، وإدراك العالم لها. وهو ما ينعكس في اندفاعٍ ورعونةٍ، تغلف تحركات الولايات المتحدة خارجياً، خصوصا تدخلاتها العسكرية. فأميركا التي يظن بعضهم أنها قوة خارقة، لا تنهزم ولا تخطئ، فضلاً عن أنها المجتمع المثالي والدولة المدافعة عن الحريات وحقوق الإنسان، هي الدولة الوحيدة في العالم التي استخدمت السلاح النووي، في أبشع جريمة إبادة جماعية لمئات آلافٍ من اليابانيين في هيروشيما وناغازاكي. وهي، أيضاً، التي لم تخض يوماً حرباً بمفردها وخرجت منها منتصرة، بدءاً من الحرب العالمية الأولى، إذ كانت جماعية بين الحلفاء والمحور، انتهاء باحتلال العراق، وبينهما سلسلة نكسات في أفغانستان والصومال والبوسنة وفيتنام. والمفتاح في فهم تلك الانتكاسات، وتفسير ذلك الإخفاق الأميركي، حتى في الملفات السياسية، يكمن في الاغترار الأميركي، وتصديق آخرين النموذج الذي صورته واشنطن للعالم. إذ تُفاجأ واشنطن، بل ترتعد، إذا عاملها طرف بندّية وفرض إرادته، وأظهر ثقة واعتداداً بقوته الذاتية، كما الصين وروسيا، وإلى حد ما بعض دول المنطقة التي تناطح واشنطن، فعلاً لا قولاً. لكن، تظل تلك استثناءات. بينما الأغلب من دول المنطقة وساساتها، إما يجاريها في خداعها، ليتكسب من ورائها، أو يتقمص دور المحارب الشجاع، ويستمرئ الكذب على شعبه، وربما على نفسه.