Skip to main content
أميركا - تركيا.. إس 400 قمة جبل الجليد
علي العبدالله
الخلاف الأميركي التركي الذي فجّره شراء أنقرة منظومة الدفاع الصاروخي الروسية إس 400 ليس أكثر من قمة جبل جليد الخلافات العميقة ومتعدّدة المستويات والأبعاد التي عرفتها علاقات البلدين، فالخلافات هذه سياسية في الجوهر؛ أساسها سعي تركي إلى لعب دور إقليمي ودولي مؤثر على طريق التحرّر من التبعية للغرب، ولأميركا خصوصا. وهذا أثار رد فعل غربي وأميركي سلبي من تحرّك تركيا المنفرد في أكثر من ملف؛ إذ برزت التباينات والخلافات في سورية والعراق وإيران واليونان والملف الكردي في تركيا وسورية والعراق. وعبّرت الولايات المتحدة عن تبرّمها من السياسة التركية بسحب بطاريات صواريخ باتريوت التي كانت نشرتها على الحدود السورية التركية لحماية تركيا، العضو في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، من تداعيات الصراع في سورية، في شهر أغسطس/ آب 2015؛ ومنعتها من شراء منظومة دفاع صاروخي من الصين؛ في وقتٍ راوغت فيه بشأن الطلب التركي شراء منظومة صواريخ باتريوت، وموقفها الملتبس من المحاولة الانقلابية الفاشلة. اشتكى الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، من أن الغرب لم يساعده تلك الليلة، كما أن حلفاءه المقرّبين، ومسؤولين حكوميين، ووسائل إعلامية موالية له، رأت أن المحاولة الانقلابية تحمل بصمات أميركا أو حلف الناتو.
كان التوجس التركي على أمن البلاد القومي قد تعمّق على خلفية موقف "الناتو" السلبي من التوتر التركي الروسي الذي أعقب إسقاط المقاتلات التركية إف 16 للمقاتلة الروسية سوخوي 24 يوم 24 نوفمبر/ تشرين الثاني 2015، وبروز الحاجة إلى منظومة دفاع صاروخي لمواجهة الطائرات المعادية في ضوء الدور المدمر الذي لعبته طائرات إف 16 في محاولة الانقلاب الفاشلة يوم 15 يوليو/ تموز 2016، حيث قصفت هذه الطائرات مباني الإذاعة والتلفزيون والبرلمان والمخابرات التركية وقيادة الأركان والقصر الجمهوري؛ وحاولت إسقاط الطائرة التي استقلها أردوغان من مدينة مرمريس في ولاية موغلا، غربي البلاد، حيث كان يقضي إجازته، من دون توفر وسائط دفاع صاروخي لردّها. وهذا ولّد قناعة تركية مفادها أن عضويتها في "الناتو" لم تعد توفر لها الضمانات الكافية لحماية أمنها؛ ما يستدعي السعي إلى توسيع هامش خياراتها لامتلاك قدراتٍ عسكريةٍ تتيح لها حماية حدودها ضد أي تهديداتٍ نوعيةٍ قد تواجهها في المستقبل.
غير أن شراء تركيا منظومة إس 400 ينطوي على طيفٍ واسعٍ من التداعيات السياسية 
والمشكلات العسكرية، في ضوء تعارض تبني سياسات خارجية بعيدًا عن سياسات "الناتو" والالتزامات التي تفرضها عليها عضويتها فيه، وخصوصا أن الأخير يضع روسيا في خانة الدول المعادية، من جهة، وأن أميركا قد وضعت قانونا لمعاقبة روسيا والدول التي تشتري أسلحةً منها، قانون مكافحة خصوم أميركا (كاتسا اختصارا)، من جهة ثانية، فالنظرة الغربية، الأميركية خصوصا، إلى الصفقة تختلف عن النظرة التركية، فقد اعتبرتها تجسيدا لاصطفافٍ جيوسياسي تركي جديد، في حين لا تريد تركيا اعتبارها مؤشّرا على رغبةٍ في توطيد علاقاتها مع روسيا، على حساب روابطها التاريخية والمؤسسية مع الغرب و"الناتو"، وخصوصا أن وقوعها في محيطٍ إقليميٍّ مأزوم، يفرض عليها امتلاك قدرات عسكرية كافية لحماية أمنها ومصالحها. وهذا عكس التصورات التي يتبناها حلفاؤها، وتقوم على أن قدراتها الحالية تتيح لها القيام بذلك. "فنشر عناصر روسية في القوات الجوية وشبكة الدفاع الجوي في تركيا، سيفقد الناتو ثقته في قدرة تركيا على أن تكون طرفاً يُعتدّ به، في حال اندلاع أزمة عسكرية. وسيشكّل هذا الأمر إنجازاً كبيراً لروسيا، بيد أنه سيُحْدث تغييراتٍ عميقةً في سياسة الدفاع الجوي للحلف. الخلاصة بسيطة: فمع وجود منظومة إس 400 في قلب الدفاع الجوي التركي، سيمسي كامل مخزون الناتو من طائرات إف 16 وإف 35 في دائرة الخطر، لأن روسيا ستتمكّن على الأرجح من (قراءة) أداء هذه الطائرات، عبر نظام روسي. وهذا أمر يرفضه الناتو، وأميركا أيضا، لأنه ما من طريقة لـ(عزل) الطائرات العسكرية التركية عن رادارات منظومة إس 400"، وفق مارك بيريني في مقالته "هل دقّ جرس خروج تركيا من الناتو؟"، مركز كارنيغي للشرق الأوسط: 29/3/2019.
أثار شراء تركيا منظومة الدفاع الروسية أسئلة محرجة لأميركا بشأن إمكانية استمرار نشر أصول أميركية مهمة في قواعد إنجرليك وقونية ومَلَطْية. الأولى تضم عشرات الرؤوس الحربية النووية الجاهزة، في وقت تنشر فيه أصول روسية في قواعد أخرى؟ فثقة الغرب بتركيا تزعزعت أساسًا، ليس فقط بسبب شراء منظومة الصواريخ الروسية، وإنما أيضا بسبب مواضيع مهمة أخرى، تشمل الخلافات بشأن التحالف ضد تنظيم الدولة الإسلامية ونقل الغاز الروسي عبر تركيا والتنقيب عن الغاز في شرق المتوسط، وتدخل روسيا سياسيًا في السياسة المحلية لدول أوروبية، إلى جانب الخلافات بشأن الخيارات الاجتماعية في تركيا التي لا تتواءم مع معايير الاتحاد الأوروبي ودول الغرب، وتخوف "الناتو" من خسارة تركيا، وقد قال الأمين العام للحلف ينس ستولتنبرغ، في تصريحات خلال مشاركته في مؤتمر الأمن السنوي الذي ينظمه معهد آسبن في ولاية كولورادو الأميركية: "إن تعاون الناتو مع تركيا أعمق بكثير من مسألة صفقة مقاتلات إف 35"، مشدّداً على أن "تركيا كانت جزءاً من نظام الدفاع الجوي المتكامل لحلف الناتو، وستبقى كذلك".
هذا على الصعيد السياسي، أما على الصعيد العسكري، فإن المنظومة الروسية لا تلبي 
احتياجات تركيا للحماية من الصواريخ البالستية، ذلك أن المنظومة مخصصة للتصدي للطائرات أساسا، وأنها ستبقى بحاجةٍ إلى منظومة إضافية لتغطية هذا الجانب. منظومة الدفاع الأميركية باتريوت تغطي هذا الجانب، وهي، على الرغم من الدعاية الكثيفة والصخب الإعلامي الروسي لترويج منظومة إس 400، أكثر تطورا ومردودية، وفق خبراء الأسلحة، ناهيك عن انعكاس عدم دمجها في نظام رادار الدفاع الجوي لـ"الناتو" على فعاليته وقدراته بالنسبة لتركيا، وهذه ستكون محدودة للغاية، وفق خبير الصناعات العسكرية التركي، أردا مولود أوغلو. ولهذا، على تركيا ألا تتخلى عن سعيها إلى شراء أنظمة بديلة، مثل منظومة الدفاع الصاروخي الأميركي باتريوت، وفق خبير الطيران العسكري هاكان كيليتش، لكنها (المنظومة) ستفيد في التخفيف من الاعتماد على طائرات الدورية من مقاتلات إف 16 لحماية الأراضي التركية من هجمات مباغتة، وهي (الدوريات) عملية مكلفة في ضوء مساحة الدولة الشاسعة، وحدودها الطويلة، وعدد الدول التي تحدّها، والتوترات التي تعيشها مع عدد منها على خلفيات تاريخية وحديثة، بالإضافة إلى الصراعات الساخنة التي تعرفها بعض هذه الدول، وتداعياتها المحتملة على الأمن القومي التركي، وتوفيرها (المنظومة) تكاليف تحليق هذه المقاتلات، من جهة، ومساهمتها، من جهة ثانية، في إطالة عمر هذه المقاتلات، على اعتبار أنّ تلك لن تضطر إلى التحليق أوقاتا طويلة، من أجل حماية المجال الجوي.
لقد أطلق شراء تركيا منظومة إس 400 حملة ضغوط متبادلة أميركية ــ تركية، عبر إطلاق مواقف سياسية وإجراءات ميدانية، من وقف تسليم طائرات إف 35 لتركيا إلى وقف مشاركتها في إنتاج أجزاء من الطائرة، مرورا بالدفع بتعزيزات عسكرية إلى القواعد الأميركية في منطقة تل أبيض، وإشراك السعودية والإمارات، غريمتي تركيا، في إدارة منطقة شرق الفرات، 
والتلويح بفرض قيود على الاستثمارات في السندات الأميركية، وتقييد وصول الشركات التركية إلى القطاع المالي الأميركي، بالإضافة إلى استهداف القطاعات العسكرية التركية، والشركات العاملة داخله. وبالتالي، سيكون من المستحيل لتلك الشركات شراء مكونات أميركية للمعدّات التي تنتجها في تركيا، من الجانب الأميركي، وحشد قوات تركية خاصة على الحدود، بمواجهة بلدتي تل أبيض وتل رفعت، وقصف مواقع لوحدات حماية الشعب الكردية في تل رفعت وجوارها، وتحريك ملف اللاجئين، استفزاز اللاجئين عبر ترحيلهم إلى سورية، عفرين خصوصا، لدفعهم إلى التحرك نحو أوروبا، للضغط على أميركا والاتحاد الأوروبي، والتلويح بشراء طائرات روسية من طراز سوخوي 57، من الجانب التركي، في محاولةٍ لتسجيل نقاط في صراع الإرادات، في إطار سعي كل طرف إلى إجبار الطرف الآخر على الرضوخ لإرادته، والقبول بتصوراته وخياراته السياسية والعسكرية، علما أن أميركا تريد صياغة ميزان القوى الإقليمي في ضوء توجهها إلى إعطاء أفضلية استراتيجية لإسرائيل، للتخفف من التزاماتها المالية والدفاعية إزاءها، وفق محللين، ما يستدعي تقويض قدرات دول منافسة، مثل إيران وتركيا. في المقابل، تريد تركيا التحرّر من الهيمنة الغربية بعامة، والأميركية بخاصة، لكن مشكلتها اتفاق أميركا وأوروبا على تقييد حركتها، وعدم وجود ظهير دولي يوافق على توجهاتها وخياراتها السياسية والثقافية، وكعب أخيلها؛ هشاشة اقتصادها في مواجهة عقوباتٍ غربية مباشرة.