أليست هذه فلسطين؟

أليست هذه فلسطين؟

10 سبتمبر 2020
Everland لـ ستيف سابيلا، كولاج فوتوغرافي من التطريز الفلسطيني (جزء من عمل)
+ الخط -

للشاعر الجزائري مالك حداد عدّة روايات ومجموعتان شعريتان، ولكن سطراً واحداً في روايته "سأهبكِ غزالة" أيقظ في نفسي موضوعاً فكّرتُ فيه زمناً وتلاشى. في هذا السطر يصف الشاعرُ أبياتاً شعرية لفرنسي بهذه الكلمات: "وكانت أبياته تعبق بأريج حبق الفتى". لا أعرف حبقاً بهذا الاسم، ولكن ما لفت انتباهي وأعادني إلى موضوعي المنسي قوله أن أبياتاً شعرية تعبق بالأريج، وأريج الحبق بالذات الذي يكثر في أغاني بلادنا. وتذكّرتُ فوراً ما نسيتُ؛ فاجأتني قارئة ذات يوم حين أدركتْ من قراءة ثلاثة أسطر شعرية مرّت بها على صفحة أحد المواقع الإلكترونية أنها لـ فلسطيني. كانت الأسطر الثلاثة تجري هكذا:

"رائحة النرجس!
لا بُد أنه الليل والطرقات الموحلة
في شتاء بعيد".

لم يكن في أي سطر من هذه الأسطر ما يدل مباشرة على أنّ القائل من فلسطين، ومع ذلك أكّدت القارئة، بعد أن سألتُها عن أدلّتها، أنها أدركت جنسية القائل من هذه الكلمات، النرجس، الليل، الطرقات الموحلة، الشتاء البعيد، من كلمات تنشر عبقاً وتقود إلى مكان. وأضافت: "أليست هذه هي فلسطين؟".

بدا لي التفسير مدهشاً، وفكّرت: "إذاً، هذا هو ما يُسمّى في النقد التعبير غير المباشر (التعبير الشعري أو البلاغي... أو ما شئتَ من أوصاف)، هذا ما هو ضدّ المباشَرة التي نعتقد أنها عدوّ الإحساس الشعري".

أن تعبق الأبيات بمشهد ما، بإحساس ما، أي أن تقول كل شيء ولا تقول في الوقت نفسه، أن توحي ببضعة ألفاظٍ ببلدٍ أو مشهدٍ ما من دون الحاجة إلى التسمية الصريحة التي هي من وظائف رسّامي الخرائط لا الشعراء، أن توحي بعاطفةٍ ما من دون الحاجة إلى الاتكاءِ على الكلمات المكرورة، مثل القلب والكبد والرئتين، أو "الفشافيش" التي يشويها باعة الكباب، حسب تعبير ساخر سمعته من الشاعر الراحل محمود البريكان.

ولكن ما شأن "الأريج" و"النرجس" و"الليل" والشتاء البعيد" بكل هذا؟

أن تعبق الأبيات بمشهد ما، بإحساس ما، أي أن تقول كل شيء

حين تعبق الأبياتُ الشعرية، يتولّد إحساسٌ غير مُسمّى، وغير محدَّد، ولكنه مع ذلك مؤثّرٌ مثلما تؤثّر فيك عينان/ نافذتان لا أحد فيهما، ومثلما يؤثّر فيك مساء ممطر لا تجد له تفسيراً من عشرات الألفاظ التي تستدعيها ولكنها لا تسعفك. اللاتحدّد، ربما هو هذا الشعور الغامر الذين تحمله الطبيعة وظواهرها، يحمله الليلُ والنرجسُ والطريقُ الموحلُ والشتاء البعيد والحبقُ العابقُ... والإنسانُ العابر أيضاً، من دون أن نستطيع تسميته وتحديده.

ولكن هذه ليست سوى عتبة، والقارئ لا يظلّ عند عتبة "اللاتحدّد"، بل ينزلق إلى المشهد. يفكّر ويتأمّل، أو قد يُؤخَذ، ولا يظلّ محايداً. نجح الشاعر في استدراجه للخروج من وقفة "المحايد"، أي من الزاوية المعتادة التي يلتقط فيها ما يعنيه وما لا يعنيه بالدرجة نفسها من اللامبالاة. إنه يدخل الآن، ويسعى إلى تحديد ما أثارته فيه هذه السطور. هو من يحدّد الآن الكيفية التي "يتمثّل" له فيها هذا الدفق من المشاهد والصور، هذا الأريج الذي تعبق به الأبيات الشعرية.

إذاً، أعود هنا إلى اللامباشرة مرّةً أُخرى وقد أصبحت تعني شيئاً واحداً في اتجاهين: الحرية في جانب الصور الشعرية، وقد تحقّقت في هذا اللاتحدّد العاطفي، والحرية في جانب القارئ الذي يقف أمام عشرات بل ومئات الممكنات، ويكون عليه أن يجعل واحداً أو أكثر منها "يتمثّل" في عاطفة محدّدة، تجاه بلد أو أرض أو شخص أو ذكرى.

من المؤكَّد أن لذاكرة القارئ دوراً في تحديد نوع ما "يتمثّل" في خياله أو وعيه، في ذاكرته الثقافية أو تجاربه الحسية. لا يتوقّف الأمرُ على عتبة أبيات الشاعر وحدها، وإن يكن لهذه العتبة أهمية كبرى في تحديد مسار ونوعية التمثّلات، بل لا بد أن يكون لما نسمّيها أبياتاً شعرية ملمسٌ وأريجٌ ولونٌ ونوافذُ تطلّ على حقولٍ وسماواتٍ، أو آفاق بالمعنى الحسّي وليس التجريدي. مكان ما يتطلّع منه القارئ إلى ما حوله.


■ ■ ■


بعض الشعرِ لا يُشعركَ أنك تقف أمام عتبة عليك اجتيازها، أو ظلالٍ تسعى إلى أن تكون شيئاً ملموساً، أي أن "تتمثّل" في شيء محدَّد. مثل هذا الشعر قد ترى نفسكَ معه في زنزانة إسمنتية رطبة بلا نوافذ، ثقيلٌ كلّ ما تراه وتحاول لمسه. لا ممكن خلف العتمة والرطوبة والجدران، سوى العتمة والرطوبة والجدران. وبعض الشعر يحيطكَ برفيف كلماتٍ على الورق، ولا شيء غير الورق وصوته. إنه كلمات تُقال وتتطاير في كل اتجاه، تفتقر إلى العبق الذي يصفه مالك حداد، واتساع الليل ووحول الطرقات ورائحة النرجس والشتاء البعيد الموصوف في الأبيات الثلاثة، وتفتقر إلى كوامن يمكن أن تكون شيئاً ملموساً. هذه مسألة تبدو مسألة تقانة فنية. نعم هي مسألة تقانة فنية، من دونها يتساقط الكلام ورقاً لا فراشات حقل، ويغدو مثلاً أو حكمة، أو حيَلاً لفظية تشبه قفزات بهلوان مثيرة لا إحساس شاعر.

الأشياءُ والكائناتُ ليست محايدة ولا أسماؤها أيضاً

ولكن لئن كانت خيارات مالك حداد أو تلك القصائد تنقلك إلى مشهدٍ جماليّ يعبق بقوّة الحياة، ويبثّ فيك وفي ما حولك ذكرى حياة منسية، أو حياة مقبلة، فإن هناك خياراتٍ أُخرى تنقلكَ إلى مشهد له "جمالياته" الخاصة، إلى مشهد غبار يثور وصوت صليل سيوف أو تكسُّر رماح، مثل ذلك المشهد الذي لا تخلو منه أبيات المتنبّي مثلاً أو أبيات المَعرّي الذي يحاكيه في "سقط الزند". في هذه المشهد إحساسٌ قويّ بالحياة أيضاً، ولكنها الحياة المكرّسة للعنف والقتل. إنها أغنية من نوع مختلف يحذّر منها شاعر ناسك مثل الياباني ماتسو باشو تلميذه، فيشدّد على أنَّ قتل اليعسوب في قصيدة ليس شعراً، الشعر بتعبيره، هو أن تمنح اليعسوب نسمة الحياة. فما بالك بالشعر الذي يحتفي بقتل الإنسان؟

هنا ننتقل إلى الموقف. فبعد أن يتخطّى القارئُ العتبة، وتتوارد على ذهنه مئات بل وآلاف الاحتمالات، ويمثُل أمام ذهنه الممكن الذي لا بدّ أن يتمثّل في نهاية المطاف، سيجد نفسه بين خيارَين؛ فإمّا أن يكون إلى جانب جماليات تجعل الأبيات تختنق برائحة الدماء وأنين القتلى والرؤوس المقطوعة، أو أن يكون إلى جانب جماليات تعبق أبياتها بالحياة النقية نقاء حديقة غسل أشجارَها المطرُ تحت ضوء يبزغ رقيقاً من وراء السحب.


■ ■ ■


الأشياءُ في الشعر ليست محايدة، حتى وإن قرّر الشاعرُ أن يقف وسط أبيات لا تتساقط منها وعليها سوى أصوات كلمات على الورق. اللاتحدّد هو سمة جوهرية حين تغيّر الكلمات طبائعها، أو تنزاح عن مسارها المعتاد بتعبيرالنقّاد المحدثين. واللاتحدّد يعني الالتباسَ دائماً، ويعني فضائله أيضاً؛ الخروج من الثابت والمستقرّ، والخروج من الاعتياد والمكرور، إلى فضاء تتأرّج فيه الأجواءُ في كل الجهات من دون أن يكون حتى الشاعر نفسه واعياً بمصدر الأريج.

لعلّني هنا أبالغ بهذه اللفظة، وأرفعها إلى مستوى القانون الشعري الجديد. ولكن الحقيقة أنّني لا أقول إلّا قولاً شائعاً إلى حد ما؛ أنا هنا أشير إلى التيارالموجيّ، تيار تخلقه العلاقة بين كائنَين يمازج بين خصائص الشخصيتين، فيخلقهما خلقاً جديداً، أي يغيّر من طبيعتيهما بالتبادل. ويَحدث الأمر نفسه حين يسري بين الكلماتِ فيمازج بين جوانب احتمالات الدلالة فيها ما أن تندرج في سطور، فتتغيّر وتُغيّر من طبائعها بالتبادل. قبل أن تندرج الكلماتُ في سطور، تكون لها شخصياتها المعجمية المستقلّة التي نُجمع عليها، أو الجانب الثابت من شخصياتها، ولكن ما أن تتقارب وتتلامس في جُمَل حتى ينشأ بينها ذلك التيار الذي ينقلها إلى مقام أعلى، إلى معنى المعنى إن شئتم، أو إلى جو من العبق يتوقّف فيه الكلام عن أن يكون كلاماً، ويتحوّل إلى نوع من السحر الذي لا تفسير له.

الأشياءُ والكائناتُ ليست محايدة ولا أسماؤها أيضاً. إنها تمنح الشاعر ممكناتٍ لا نهايةَ لها، ويمنح الشاعر من جانبه قارئه هذه الممكنات. فيقول مالك حداد حين يسمع الشاعر الفرنسي: "كانت أبياته تعبق بأريج حبق الفتى"، وتقول القارئة المجهولة: "أليست هذه هي فلسطين؟".


* شاعر وروائي وناقد من فلسطين

المساهمون