أفلام سياسية: هل يخوض المخرجون حروبًا بالوكالة؟

أفلام سياسية: هل يخوض المخرجون حروبًا بالوكالة؟

06 مايو 2017
(فيلم: Independence Day)
+ الخط -


لن تنفكّ وأنت تشاهد فيلمًا هوليوديًا ضخم الميزانية مثل Independence Day "أنت المشاهد الواعي" عن التّفكير في كمّية الإشارات الإيديولوجية التي يمكن لهذا الفيلم أن يحتويها، وفعاليتها في ترسيخ "عظمة أميركا"، وقوة "الشّخصية الأميركية وفرادتها". الكائنات الفضائية "الفظيعة" التي تتربّص بالأرض، تتصدى لها أميركا، كل الكوارث الطّبيعية، والأمراض التي تهدّد البشرية، أميركا تكتشف مضادّات لها وحلولًا تنقذ البشرية.

قد يراه البعض مجرّد مُعطىً عادي راجع لجنسية منتجي هذه الأفلام، لكنه لا يكون كذلك أبدًا. فهذه الأفلام تروّج لفكرة دركي العالم، لسيطرة القطب الواحد، ولإدارة العالم من داخل البيت الأبيض، هكذا تصبح الفكرة بعد سنوات "أو أفلام" أمرًا مسلمًا به، ومتقبلًا نظرًا لما تروّج له هذه الأفلام، من قدرة خارقة تمتلكها أميركا "زعيمة العالم الحديث" وحاميته من الشرور والأشرار.

كلّ هذا قد يبدو مبالغًا فيه، لكنه حقيقي بشكل يماثل حقيقة تأثير السّينما، والتي هي "كتابة بالصّورة" كما يقول جان كوكتو، وهي أكثر قدرة على إيصال رسائل شديدة التأثير من خلال القصص التي ترويها وشخصياتها وعوالمها، واستغلال قوّة الصّورة التي يُمكن لها تأليب فئات واسعة من الجمهور ضدّ جهة معيّنة، واستدرار عطفها تجاه أنظمة أو قضايا، أكثر من أية وسيلة أخرى.

وبمجرّد ظهور هذا الفنّ الحديث نسبيًا مقارنة مع الفنون الأخرى، أدرك القادة السياسيون والأحزاب والطّوائف السياسية، أهمّيته في جلب اهتمام الجمهور العادي، بفعالية لا يمكن إحداثها بوسائل أخرى قبل التليفزيون، وعبره من خلال الأفلام المعروضة فيه.


السّينما/ الإيديولوجيا
العمل السّينمائي سلعة كما قال جان لوك كوموللي، وجان ناربوني، في مقال نُشر في مجلّة دراسات سينمائية بعد إحداث مايو 1969، فالسّينما تمتلك قيمة تبادلية تتحقّق بواسطة بيع التذاكر، وتحكمها قوانين السّوق، ومن جانب آخر ونظرًا لكونها مُنتجًا ماديًا للنظام، فهي أيضًا مُنتج إيديولوجيا له، والذي يعني في فرنسا النّظام الرأسمالي. ولأنّ أي فيلم هو جزء من النّظام الإيديولوجي، كما يقولان، فالسّينما والفن هما فرعان للإيديولوجيا. ولا يمكن لأحد أن يهرب من هذه الحقيقة إلى مكان، فالجميع مثل قطع البازل كلّ له مكانه المخصّص له، في نظام أعمى.

لكن هذا لا يعني أن كل صانع أفلام يلعب دورًا مشابه لأدوار الآخرين، فالاستجابات مختلفة، وكلّ فيلم هو فيلم سياسي، لأنه محدّد بالإيديولوجيا التي تنتجه، بما أن السينما وخلافًا لفنون أخرى، يعتمد تصنيعها الفعلي على قوى اقتصادية ضخمة بأسلوب لا يحدث في إنتاج الأدب مثلًا. السينما تنتج واقعًا، وهذا الواقع ليس سوى تعبير عن الإيديولوجيا السّائدة، والنظرية الكلاسيكية التي تقول إن الكاميرا أداة غير متحيّزة، نظرية رجعية، وفق كوموللي وناربوني، فما تصوّره الكاميرا هو العالم الغامض غير المتأمّل للإيديولوجيا السائدة فقط.

لأنّ السينما إيديولوجيا تقدّم نفسها بنفسها، وتتحدّث إلى نفسها وتتعلّم ما يتعلق بها. وهي إحدى لغات العالم، اللّغات التي تمثل إيديولوجيته، لأنها تخلقه من جديد. وهكذا حين نشرع في عمل جديد فإنّنا منذ اللّقطة الأولى، نكون مثقلين بضرورة أن نخلق الأشياء ليس كما هي، بل كما تبدو حين تنكسر من خلال مرورها بالإيديولوجيا. وهذا يتضمّن كل مرحلة في إنتاج الفيلم. وحالما ندرك أنّ طبيعة النّظام السائد هي التي تحوّل السينما إلى أداة إيديولوجية، فإنّنا يمكن أن نفهم أن المهمّة الأولى لصانع الفيلم، هي أن يفضح ما زعم أنه "تصوير واقع" سينمائيًا وإن استطاع صانع فيلم أن يفعل ذلك، فهناك فرصة لأن نصبح قادرين على قطع العلاقة بين السينما ووظيفتها الإيديولوجية.


اشتراكيون يهدهدون أحلام الفقراء
قبل الرأسمالية لفتت السّينما انتباه الأنظمة الاشتراكية الوليدة، فاستعملتها بقوّة، مستغلة عبقرية مخرجين كبار، في روسيا بشكل خاص. بل حتى من طرف النازية، فلم يقصّر هتلر في استغلال عدد من المخرجين الألمان البارزين في بداية القرن الماضي، والذين قدّموا أعمالًا دعائية للرّايخ الثالث طواعية، أو رغمًا عنهم. وكانت الأعمال الفنّية التي لا تروّج للشيوعية في الاتحاد السوفياتي، أو للنازية في ألمانيا، يُضايق أصحابها، ويسجنون بتهمة عدم تشجيع قيم الثورة البلشفية أو القيم النازية.

سيرجي أيزنشتاين أحد المخرجين الروس الكبار، حاول تصوير كتاب "رأس المال" لماركس في أفلام عديدة منها "أكتوبر" سنة 1928، بعد أن خضع لإغراء الفرص التي عرضت عليه لإنجاز أفلام عن ثورة أكتوبر البلشفية، إلى جانب فيلمه الأشهر "المدرعة بوتمكن"، الذي ينتصر فيه بشكل مباشر للشّيوعية، بينما وظّفت إستر شب التي اشتهرت بمهارتها في التّوليف وصنع أفلام من مقتطفات من الأرشيف، هذه المهارة في أفلام دعائية سياسية، مثل فيلم "الطريق العظيم The Great araoad"، وسقوط سلالة آل رومانوف الحاكمة The Fall on The Romanov Dynasty".

وهذه الأفلام في معظمها فشلت فنيًا، في إقناع النقّاد، رغم أنّ مخرجيها متمكّنون من أدوات السينما لكن السياسة أفسدت أعمالهم. فمثلًا فشل بوريس بارنت في فيلم "موسكو في أكتوبر"، الذي قام فيه بإعادة بناء الأحداث، محاولًا إبداع فيلم احتفالي بالكامل يتحدّث عن استيلاء البلاشفة على السلطة سنة 1917. على الرغم من النّجاح الكبير الذي لقيته بعضها، نظرًا لمستواها الذي جعلها بالرّغم من انحيازها الإيديولوجي علائم فارقة في السينما العالمية.


من روسيا إلى العالم، الاشتراكية تحبّ السينما
مقابل ذلك، استخدم الحزب الشيوعي الفرنسي شكلاً من العمل الدعائي وسط الجماهير قلّ استخدامه من الشّيوعيين في العالم، باستثناء البلدان الاشتراكية، وهو إخراج وإنتاج أفلام سينمائية توثّق للحزب الشيوعي الفرنسي وتفسر توجّهه السياسي في الوقت نفسه. لذا يمتلك الحزب الشيوعي الفرنسي أرشيفًا كبيرًا من هذه الأفلام السينمائية التي تمّ إخراجها في القرن الماضي.

وبدأت موجة الأفلام الدعائية لفائدة القيم الاشتراكية سنة 1930 من طرف مخرجين منتمين للحزب الشيوعي الفرنسي، وبكثافة وصلت إلى أن يضمّ الأرشيف السينمائي للحزب الشيوعي الفرنسي 1200 فيلم. تغطّي معظم هذه الأفلام الفترة الممتدة من عام 1930 حتى عام 1955، وهي مرحلة صعود الحركة الشّيوعية العالمية، ومن بينها فيلم "الأرض المزدهرة"، و"الحي الأحمر"، والقسم الآخر يغطي الفترة من عام 1960 حتى 1980 وهي مرحلة تراجع الحركات الثّورية في العالم.


الإيديولوجيا الضّمنية
ظهور ثلّاجة ممتلئة بالطعام في فيلم أميركي، من الممكن أن يراها المشاهد الاشتراكي كنوع من الدّعاية السياسية، فملء الثلاجة يشير إلى الوفرة الرأسمالية في مقابل سياسة التقشّف الشيوعية. يقدّم توني ماك كيبين هذا المثال ليوضح ما يعنيه بالإيديولوجية الضّمنية. فهو يعبّر عن ملمح سياسي من وجهة نظر معينة، لكن هذه الإيديولوجية الضّمنية تظهر بشكل عفوي، ولا يمكن أن ننظر إليها على أنّها من الأمور المتعمّدة أو أنها دعاية سياسية.

ويضيف في شرح للمنظور الشّخصي للفيلم، والمنظور التاريخي له، أنّه لو أن فيلمًا مثل فيلم "قلب شجاع" لميل غيبسون الذي يتميّز بميله العدائي للإنكليز، أصبح إطارًا إيديولوجيًا لحركة قومية متشددّة، وأن آلافًا من الإنكليز قُتلوا بسببه، لن يكون مجرّد فيلم كليشيهات، يسيء إلى الإنكليز ذوي الحساسية المفرطة، أو إلى الجمهور الواعي إيديولوجيًا أو النقّاد (النّظرة الشخصية)، بل سيتمّ تضخيم العنصرية في الفيلم، وتصبح إطارًا لحركة قومية (النّظرة الجمعية).

على عكس المشاكل التي تسبّب بها فيلم "مولد أمة" في أميركا، والذي كان خلف ميلاد ثانٍ لجماعة (كو كلوكس كلان) عام 1915 وهي سنة عرض الفيلم، "نظرًا لمستواه الفني المرتفع بالنظر إلى ما كان ينتج آنذاك، وضع المهتمين في ورطة للتفريق بين مستواه الفني وعنصريته الصّادمة". مثله مثل فيلم "انتصار الإرادة" الذي أخرجته ليني ريفنشتال كفيلم دعائي نازي، وكذلك فيلم "المدرّعة بوتمكين" لسيرجى أيزنشتاين. وتشترك الأفلام الثلاثة في كونها أفلامًا إيديولوجية مُعلنة، بينما معظم الأفلام الهوليودية يمكن النّظر إليها على أنّها تحمل إيديولوجية مُتضمّنة، بالإضافة إلى مستواها الفني الجيّد.

بناءً عليه فإن فيلمًا مثل "ذهب مع الريح" يمكن اعتباره متوسّط الحضور الإيديولوجي الإيحائي، على الرغم من أنه ساند الجنوب أثناء الحرب الأهلية الأميركية، مقابل الشّمال الذي كان يُطالب بالقضاء على العبودية، لكنّه لم يكن دعاية إيديولوجية، بقدر ما كان انحيازًا لأحد طرفي الحرب. بينما فيلم "قلب شجاع" كان يحتوى على إيديولوجية مُعلنة، لدرجة أن الحزب القومي الاسكتلندي اعتبره معبرًا عن مشاعر القوميين.

فيلم "العدد اثنان" لغودار قد يكون المثال الأوّل، للإيديولوجية المتضّمنة. فيأخذ عائلة فرنسية تقليدية، ويعرض اضطرابها كنتيجة للرأسمالية. مقدمًا تحليلًا لاضطراب عائلة بين أنماط معقدة للحياة، لينتقد الرأسمالية في الفيلم، في جزء منه، فيما يُخصّص الجزء الأوّل للبحث عن طريقة لتمويل فيلم، بطريقة فيلم داخل فيلم، والعلاقات داخل نمط الإنتاج مع الآلات ومع البشر.


هوليود يا هوليود
هناك لائحة غير منتهية من الأفلام ذات الطابع السّياسي. أفلام تتحدّث عن قادة سياسيين أو مواضيع سياسية صرفة، ومباشرة. وعلى الرغم من محاولتها أن تقدّم الأحداث بشكل محايد، إذ إنه ليس هناك مخرج يفكر في إخراج فيلم موضوعه سياسي وهو غير مأدلج بطريقة أو بأخرى فهو إما متعاطف مع الشّخصية أو مناوئ لها. منها:

فيلم (the King’s Men)، و(W دبليو)، و(جون كينيدي-JFK)، و(مرشح منشوريا-The Manchurian Candidate)، و(سبعة أيام في مايو/ أيار-Seven Days in May)، و(فروست/ نيكسون– Frost/Nixon)، و(السيد سميث يذهب إلى واشنطن- Mr. Smith Goes to Washington)، و(جميع رجال الرئيس- All the President’s Men).

إلى جانب المحتوى الإيديولوجي غير المباشر الذي سبق وتحدثنا عنه، والذي يروّج لرأسمالية "الحلم الأميركي". ليس ذلك الحلم الذي يروّج عند الأميركي "وهو امتلاك سيارة وبيت وزوجة جميلة"، بل في تمجيد الاثنين "الحلم وصاحبه"، في نظر الإنسان المسحوق في بلاد بعيدة، لا توفّر لا إمكانية تحقيق الحلم، ولا إمكانية الحلم بشيء يمكنه أن يتحقّق له فيها حتى لو كان مجرّد التّنفس بحرية، أو الكرامة.

المساهمون