أفكار المفكرين ورحيل طرابيشي

23 مارس 2016

جورج طرابيشي.. لم ير لتنظيره تطبيقاً

+ الخط -
في رحيل واحدٍ من أعمدة "النقد الحضاري لأزمة النهضة العربية"، المفكر العربي جورج طرابيشي، يبدو مفيداً ألّا يتوقف رثاؤنا وذكرياتنا عن الرجل عند حدود إنجازاته الفكرية وإضافاته الثريّة للمكتبة العربية، في تحليل الأزمة النهضوية واقتراح حلولٍ لها، بل أن يتجاوزه إلى تذكّر أن الأزمة إياها ما تزال حاضرةً، وأن إضافات طرابيشي، ومجمل المفكرين العرب الذين اشتغلوا على نقد أزمتنا حضارياً، ما تزال حبيسة رفوف المكتبات، لأن أصحاب القرار، في السياسة والمجتمع، ليسوا معنيين كثيراً بوضعها موضع التطبيق، لعلهم لا يستشعرون الأزمة، كما يستشعرها مفكرونا!
تلك الإضافات المهمة، كالتي وضعها محمد عابد الجابري، وهشام شرابي، وجورج طرابيشي، وبرهان غليون، وغيرهم من الراحلين والباقين، تستمد فضلها وتفوقها على السياسة، من عملها على تحليل المشكلة، قبل الانتقال إلى اقتراح الحلول كما يفعل السياسيون، وهذا يعني أن عمل السياسيين المخلصين لا يمكن أن يكون منتجاً من الناحية الحضارية، من دون الاستعانة بأفكار المفكرين، على قاعدة "الرأي قبل شجاعة الشجعان"، وهذا ما يشرح، ربما، خللاً في تاريخنا المعاصر، حين أراد سياسيون مخلصون، ظهروا هنا وهناك في عالمنا العربي المنكوب بالاستبداد والفساد، أن ينهضوا بأوطانهم، انطلاقاً من سؤال "ما العمل؟"، من دون أن يستعينوا بالمفكرين ليقولوا لهم "ما المشكلة"!
والحال أن سؤال السياسة حول "ما العمل؟"، ظل ينطوي على تجاوز للسؤال الأكثر جوهرية، الذي تجب الإجابة عليه أولاً، إجابةً محددة وشافية ونهائية، في سياق ترتيب الخطوات للتخلص من الأزمة الحضارية، وهو المتمثل بتحديد "المشكلة"، فالواقع أن الأزمة الحضارية العربية لم يجر تعريفها عند من يُفترض بهم العمل على حلها، لكي يكون منطقياً الانتقال إلى طرح حلول بشأنها. أليس ذلك مما يفسّر فشل الحلول المطروحة، في حل الأزمة الحضارية، حلاً مُرضياً على مستوى الأنظمة والتنظيمات المعارضة سواء بسواء؟
لم يجر تعريف الأزمة العربية. لذا، افترض كل فريق أن حلوله المطروحة لما يظنه "جوهر الأزمة" هو الضمانة الأكيدة للخروج من التخلف الحضاري. هكذا، صيغت حلولٌ دينية، وأخرى مضادّة للدين، ولمعت وانطفأت حلولٌ قوميةٌ وغير قومية، وظهرت اقتراحاتٌ بشأن ماهية "القضية المركزية" في العالم العربي، تمحورت، على الأغلب، حول قضايا سياسية، أهمها القضية الفلسطينية التي ظل العرب عقوداً يعتبرونها قضيتهم المركزية، قبل أن يراجع فريق منهم نفسه، معتبراً أن "الديمقراطية" قضيته المركزية، وهو أمر تكرّس بعدما قامت ثورات الربيع العربي. وهذا يعني أن العرب لم يعانوا من نقص الحلول المقترحة، بل من كثرتها، فكان طبيعياً أن يغيب برنامج العمل الموحد عن أجنداتهم، ويغيب قبله الهدف الموحّد اللازم لصياغة خطة العمل، وتحويلها إلى برنامج.
وليس معنى ذلك أن الأزمة الحضارية العربية ذات وجه واحد بالضرورة، وأن لها "قضية مركزية" واحدة، يجب اكتشافها والاتفاق عليها قبل كل شيء، فتعريف الأزمة لا بد أن يكتشف كم أنها أزمة مركبة، وكيف أن لدى كل فريقٍ من أصحاب الحلول المقترحة، الهاربة إلى الأمام، جزءاً من الحقيقة، لكن بلوغ الحقيقة الكاملة، القائمة على جمع أجزائها المتناثرة بين الفرقاء، ليس أمراً سهلاً بالمرة، ذلك أن هؤلاء الفرقاء الهاربين (بحلولهم) إلى الأمام لا يدركون كم أنهم يعمّقون الأزمة بحلولهم الجزئية القاصرة تلك، وهو أمر يشمل الفرقاء من شتى المدارس الفكرية، ومختلف الأطروحات والاقتراحات السياسية، لأنهم يظنون أن الحقيقة الكاملة ليست إلا طرحاً منافساً لطرحهم، وهذا طبيعي، ما داموا يعتبرون حلهم الجزئي كاملاً وكافياً.
هكذا، فإن العرب لا يحتاجون، في الحقيقة، إلى اكتشاف "قضية مركزية"، بل إلى صياغة "خطة مركزية"، وتنفيذها فعلاً، وهو أمر لا يمكن أن يكون ممكناً قبل تعريف الأزمة العربية واكتشاف مشكلتها.
ثمّة حاجة ملحة، إذن، إلى تقديم الحصان على العربة، فهل يمكن أن نفعل ذلك، بينما نركن أفكار المفكرين على الرفوف؟ مات جورج طرابيشي وهو ينظّر، ولم يرَ لتنظيره تطبيقاً، لأن الأفكار في بلادنا "بضاعة لا يرغب بها أحد"، فكم سيرحل مفكر بعده من دون أن تستفيد منه التطبيقات السياسية والمجتمعية، كما تفعل دول متقدمة في العالم، ما كان ممكناً لها أن تتقدم من دون مفكريها.
1E93C99F-3D5E-4031-9B95-1251480454A7
سامر خير أحمد

كاتب أردني من مواليد 1974. صدرت له سبعة كتب، أبرزها: العرب ومستقبل الصين (بالعربية والصينية)، العلمانية المؤمنة، الماضوية: الخلل الحضاري في علاقة المسلمين بالإسلام، الحركة الطلابية الأردنية. رئيس مجموعة العمل الثقافي للمدن العربية.