أسئلة صعبة في الثورة التونسية

أسئلة صعبة في الثورة التونسية

27 يناير 2015
+ الخط -

كيف يمكن للغة أن تنجو من لغْوِها، وهي يحكّ بعضها بعضاً، في محاولة -بائسة-للتعبير عما انطبع وينطبع في الذات من مشاعر وخواطر، يثيرها ويركض أمامها حدث الرّوح التونسي الأعظم: الثورة المجيدة؟!

وبعيداً عن التجريد الشخصي الذي آلت إليه كلمة "الثورة"، وعن تصدرها قائمة أسهم الخطاب في بورصة المزايدات السياسية، بل بعيداً عمّا تفجره من تداعيات معنوية وحلمية، أجدني أميل إلى العودة إلى التجسيد، إلى القبض على الشيء والمعنى بالحواس المتأتية، قبل أن تقنصهما التسمية، وتحبسهما في أقفاصها الرنانة.
ثمة سؤال أبله يدور في خلدي، قد يصلح ليكون بداية، وإن كانت فجة، للملامسة المقصودة هنا: لماذا يجب على الشعراء أن يكتبوا شعراً أو نثراً، عن الإشراقات الخلابة للثورة التونسية المجيدة!؟
وكأني بالشاعر ما يزال يعتبر نفسه، ويعتبره الآخرون، صوت أمته، وضميرها الحي، الحامل همومها وأفراحها وآلامها، المعدد لمناقبها، الممجد لانتصاراتها، الرائي لقتلاها، الشاتم لأعدائها...
لكن النّاس ينتظرون من الشاعر مثلاً، أن يقول ويكتب! وهو في داخله يحس أنّ مهمته هو، دون غيره! وكأنّه راسخ في وهمه أنّ حركة التاريخ، وسيرورة الواقع، ورياح التغيير مرهونة بما سيسيل به قلمه على لوح الأقدار المكشوف، هذه المرة، لا المحفوظ! وكأننا ما نزال ننظر إلى صراع وجودنا نظرة شاعرية، تستبدل الحركة والفعل الناتجين عن الدرس والتحليل والرصد الموضوعي، ببلاغات لفظية، لا تعمل على تحويل الدّم إلى حبر فحسب، بل، أيضاً، على تحويل الشهادة إلى رمز، والألم البشري إلى مجاز!
والسؤال: هل تعدّ قصائد الشعراء وكتابات الكتّاب وخطابات الخطباء مشاركة في الثورة التي أشعلها البوعزيزي، واشتعل بها، أم أنّها ليست سوى تعويض مرض عن العجز عن المشاركة الحقيقية فيها؟
هل من شأن هذه الكتابات أن تسهم في تحقيق الديموقراطية وإنقاذ المناطق المهمشة من عقال الفقر وتوفير شروط الأمن والأمان، أم أنّ جدواها تقتصر على تحرير ضمير كاتبها من وطأة الإحساس بعدم النفع، وإراحة ضمائر متلقيه بسبب ما تعانيه من شلل شامل؟!
ما يمكن أن يقال في هذا الشأن ينطبق عليه التشريع الشهير: الحلال بيّن والحرام بيّن. بمعنى أنّ كل وجهة نظر أصبحت واضحة، فهناك جماعة من المتطيّرين الذين تروعهم شبهة الوطن في الأدب، بدعوى أنّ الشأن العام يؤثّر سلباً في الذات، التي هي مملكة الفن وجوهره ومآله الطبيعي.
أعترف بأنّ الثورة التونسية الخالدة جردتني من أدواتي اللغوية والبلاغية جميعها، ومسحت بممحاة واقعيتها كل ما حفظته من كلمات وتعابير، وما خزنته من أسماء وتشبيهات، وأوقفتني هكذا مذهولاً مبهوتاً، أمام حقائقها العارية!
وسيبقى السؤال مفتوحاً على آفاق لا آخر لها، تنبعث فيها الثورة كالعنقاء، وهو أيّهما أنجزَ الآخر؟ أيّهما سينجز الآخر، تونس أم ثورتها؟
أم كلا الإثنين، سينجزان تونسياً حرّاً خطوته الأولى على هذه الأرض التونسية؟
سلام هي تونس.

avata
avata
محمد المحسن (تونس)
محمد المحسن (تونس)