أزمنة تيريز هلسة

أزمنة تيريز هلسة

30 مارس 2020

تيريز هلسة (يوتيوب/تلفزيون فلسطين)

+ الخط -
لمّا أمكن لشابتين وشابين، السيطرة على طائرةٍ بلجيكيةٍ يملكها إسرائيليون، حلّقت من بروكسل إلى مطار اللد الإسرائيلي، ثم إبلاغ قبطانِها سلطاتِه، عند هبوطها في مدرّجه، أن خاطفيها يطلبون إطلاق سراح مائتي أسير فلسطيني، لمّا صار ذلك مساء يوم 8 مايو/ أيار 1972، بدا الحدث ناشزاً ربما، فقد كانت قيادة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، التي سنّت تلك السُّنة، قد قرّرت وقف العمليات الفدائية لخطف طائراتٍ بركابّها، بعد أن نشطت فيها بعض الوقت، وإنْ لم يُسلّم الرجل الثاني في الجبهة، وديع حداد، بهذا. وكان الرأي أن عملياتٍ كهذه استنفدت أغراضها، من قبيل تعريف العالم بأن الفلسطينيين ليسوا لاجئين فقط، وإنما شعبٌ قضيته عادلة، وأيضاً الضغط على المحتل الإسرائيلي لتحرير الأسرى الذين يحتجزهم. بدا، في حينه، أن منظمة أيلول الأسود، التابعة لحركة فتح، تريد تجريب هذا الأسلوب، فخطّط القيادي فيها، أبو حسن سلامة، لعملية خطف الطائرة البلجيكية، بعد تهيئة جوازات السفر المزوّرة للفدائيين الأربعة، ولكن العملية انتهت بنجاح الحيلة الإسرائيلية على الخاطفين، فاستشهد الشابّان منهم، واعتُقلت الشابتان جريحتيْن.
لم يكن لتلك الواقعة البعيدة لتُستدعى من أرشيف الزمن الفلسطيني الآفل، لولا وفاة إحدى تينك الفدائيتين، المناضلة تيريز هلسة، أول من أمس في عمّان عن 66 عاماً، وكانت في السابعة عشرة عاماً. من يطالع التفاصيل لا يقدر إلا أن يجلّ الروحَ الجسورةَ والمقدامة التي كانت عليها تلك الشابة التي كانت قد غادرت منزل أسرتها في عكّا وتسللت إلى لبنان، والتحقت هناك بالحركة الفدائية الفلسطينية، بعد أن مرّت بتجربة غضّة وقصيرة في الحزب الشيوعي الإسرائيلي. وإلى هذا الإجلال، المعطوف على إعجابٍ غير محدود، يستوقفك كثيراً أن السيدة المحترمة قالت مرّة، في مقابلةٍ صحافية معها، إنها، لمّا شاركت في خطف الطائرة كانت متأكّدة من أن الحكومة الإسرائيلية لن ترضخ لشروطهم، الخاطفين الأربعة، ولن تُطلق سراح الأسرى. وهذا قولٌ يبعث على تساؤلٍ محيّر، عما إذا كان التنظيم الفدائي، وهو يرتّب للعملية، الشجاعة لا شك، يزن الأمور كلها، ويقلّب الاحتمالات، ويضع قدّامه الممكن والصعب والمتوقع، أم أن ثمّة مقادير من الارتجال الدعائي، المطبوع بما قد يجوز وصفَها طفوليةً ثوريةً، تتوسّل الأداء الكفاحي ذاتَه لذاته، وتُعلي من قيمته، وتقدّم هذه القيمة (المتوهمة أو الحقيقية؟) على أي اعتبار وأي حساب. ويجوز، في الوقت نفسه، أن يقول واحدُنا، وإنْ على مبعدة 48 عاماً من ذلك الاشتباك المسلح في المطار الإسرائيلي المقام على أرضٍ فلسطينيةٍ مُصادَرة، إن ذلك الارتجال، المؤكّد هنا، مرّة عاشرة وأكثر، على الوطنية العالية والبطولة فيه، كان من أسباب فشل عملية الخطف، الناجحة من بروكسل إلى اللد قبل اختتامها بإصاباتٍ بالغةٍ في تيريز هلسة التي حُكمت تالياً، بمؤبدّيْن وأربعين عاماً، بعد أن أصابت، في أثناء الاشتباك، مجنّداً اسمُه بنيامين نتنياهو.
قالت الراحلة إن الاعتقاد ساد في العالم بأن منظمة التحرير الفلسطينية إرهابية، "ولكننا أردنا، بواسطة اختطاف الطائرات، أن نعرّف العالم بقضيتنا، قضية الشعب الفلسطيني الذي شرّد من أرضه ووطنه في النكبة". يحسُن أن يُقرأ هذا الوعي الذي كان رائجاً في ذلك الزمن للمراجعة والتحليل، وللدرس في كل حال، لا للتعليم عن بعد، ولترحيل منظورات العام 2020 إلى العام 1972، ولا سيما أنه جوهريٌ أن كل عمليات الفلسطينيين في خطف الطائرات لم يُقتل فيها أي مدني، إلا عرضاً، وغالباً برصاص غير فلسطيني.
ما هو مهمٌّ أيضاً في سيرة تيريز هلسة المعنى الجوهري في العلاقة الشديدة الخصوصية بين الشعبين الموحديْن، الفلسطيني والأردني، فالراحلة من أسرة مسيحية، الأب من مدينة الكرك الأردنية، قدم إلى فلسطين وأقام فيها، والأم من قرية فلسطينية. وثمينٌ أيضاً أن نعرف أن سنوات السيدة المبجّلة العشر في سجون الأسر الإسرائيلي لم تجعلها تتوقف عن العمل الفلسطيني العام، فقد ظلت فيه، وصار كفاحُها الموصول معنياً بالاعتناء بالجرحى من المقاومين الفلسطينيين ممن أُصيبوا في اشتباكاتٍ مع الصهاينة، في لبنان وفلسطين، وكانت تتولى مسؤوليةً رسميةً وشخصيةً واجتماعية في هذا الجهد، ولها فيه حكاياتٌ حارّة غزيرة، فيها دروسٌ أخرى تضاف إلى دروسٍ من زمن خطف الطائرات.
358705DE-EDC9-4CED-A9C8-050C13BD6EE1
معن البياري
كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965. رئيس قسم الرأي في "العربي الجديد".