أزمة فساد "أونروا": هدية مجانية لأميركا وإسرائيل

أزمة فساد "أونروا": هدية مجانية لأميركا وإسرائيل

23 اغسطس 2019
كرينبول أحد المتهمين بالانتهاكات (مصطفى حسونة/ الأناضول)
+ الخط -
من المتوقع أن يتسلّم الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس، خلال الأيام المقبلة، رسمياً، نتائج تحقيق مكتب خدمات الرقابة الداخلية في الأمم المتحدة بما يتعلّق بمزاعم سوء الإدارة واستغلال السلطة الموجهة لقيادات في وكالة "غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين" (أونروا)، وسط تربّص أميركي - إسرائيلي لمحاولة استغلال هذه الأزمة، والنيل من الوكالة التي دأب الطرفان على القيام بكل ما في وسعهما بهدف تصفيتها. وكانت تسريبات إعلامية كشفت عن تقرير لمكتب الأخلاقيات في الأمم المتحدة رفع لغوتيريس في شهر ديسمبر/ كانون الأوّل الماضي، تحدّث عن اتهامات بانتهاكات خطيرة داخل الوكالة. إلا أنّ مكتب خدمات الرقابة الداخلية يجري تحقيقاً على الأرض في هذه الانتهاكات المزعومة، والتي تشمل اتهامات لمسؤولين وموظفين كبار، بمن فيهم المفوض العام للوكالة بيير كرينبول، بالتورط في علاقات عاطفية ومحاباة وتمييز وقمع معارضي رأي لأهداف شخصية، وسواها من ممارسات استغلال السلطة لمنافع شخصية. وكان قد استقال أو خرج عدد من الموظفين من "أونروا" قبل أن تظهر تلك التسريبات الإعلامية. وبداية الشهر الحالي، عيّن الأمين العام للأمم المتحدة البريطاني كريستيان ساندرز نائباً لكرينبول بدلاً من الأميركية ساندرا ميتشيل التي استقالت من منصبها.

من جهته، نفى كرينبول الاتهامات الموجهة إليه، وقال في بيان له في وقت سابق: "لن نتردد باتخاذ أي إجراءات في حال توصّل التحقيق الجاري لنتائج تتطلّب أن نأخذ تدابير تصحيحية أو أي إجراءات إدارية". وإن صحت تلك الاتهامات أو أغلبها، فإنها لن تكون الأولى أو الأخيرة بحق موظفين تابعين للأمم المتحدة ومنظماتها المختلفة. فمنظمات هذه المؤسسة العملاقة تقدّم خدمات إنسانية ضرورية تنقذ حياة عشرات الملايين من البشر هم بحاجة ماسة إليها، لكن في الوقت ذاته تنخرها البيروقراطية التي لا تساعد بالضرورة على التصدي لأي خروقات بالسرعة اللازمة. وتطغى هذه الأخبار السلبية والانتهاكات، التي يقترفها أفراد، على سنوات من العمل الذي يقوم به آلاف الموظفين الآخرين في منظمات الأمم المتحدة، في وقت تستغل دول مختلفة وجهات لا تروق لها سياسات الأمم المتحدة، في هذه القضية أو تلك، للاصطياد بالمياه العكرة، والطعن بمصداقية المؤسسة الدولية ككل أو منظمة بعينها، كما حدث مع "أونروا" أخيراً.

ومهما كانت نتيجة التحقيق، فإنّ ضجة العيار الذي أطلق، حتى وإن لم يصب، أصبحت واضحة من خلال محاولات مسؤولين إسرائيليين وأميركيين لتوظيف تلك التسريبات في اتجاه التشكيك مجدداً في مصداقية وجدوى وجود "أونروا"، ولتبرير قطعهم الدعم عنها، كما حدث من قبل الجانب الأميركي.

وتقدّم "أونروا" الخدمات لأكثر من خمسة ملايين لاجئ فلسطيني داخل فلسطين المحتلة وخارجها في الأردن وسورية ولبنان. وتمكّنت الوكالة تحت رئاسة كرينبول خلال الأشهر الثمانية عشر الأخيرة، منذ وقف الدعم الأميركي، من تأمين أغلب المبالغ لسدّ عجزها المالي الناجم عن هذا التوقف الذي وصل إلى أكثر من ثلاثمائة مليون دولار سنوياً. وكانت قد أطلقت حملة شعبية لجمع التبرعات لـ"أونروا" تحت عنوان "الكرامة لا تقدّر بثمن"، كما تمّ اتخاذ عدد من الإجراءات التقشفية داخل الوكالة من دون أن تصيب بشكل جذري خدماتها الأساسية، كالتعليم والطب وغيرها. كذلك، عقد كرينبول بدعم من الأمين العام للأمم المتحدة عدداً من المؤتمرات لجمع التبرعات في كل من نيويورك وروما وبروكسل وعمان، ناهيك عن سفراته المكوكية بين عواصم عربية وغربية عديدة لتأمين تلك الأموال. وأصدرت جامعة الدول العربية بدورها، قراراً يقضي بتقديم المساعدات بشكل دوري للوكالة. ووسط كل هذه الجهود، جاءت الاتهامات الأخيرة، لتعلن بعض الدول كسويسرا وهولندا وقف دعمها للوكالة، وهي خطوات مستغربة تتم فيها معاقبة المحتاجين نتيجة لتقصير ما لم ينته التحقيق به بعد، من مسؤولين من الأجدر معاقبتهم هم إن ثبت ذلك.


وتعليقاً على القضية، قال مصدر رفيع المستوى في الأمم المتحدة، في حديث مع "العربي الجديد": "ستكون لهذه القضية تداعيات سلبية على المدى القصير وسيستمر الأميركيون والإسرائيليون وحلفاؤهم بالطعن في مصداقية المنظمة. ولكن على المدى البعيد، سوف تتمكّن الوكالة من التعافي. في نهاية المطاف، القرار حول استمرار عمل أونروا منوط بالجمعية العامة للأمم المتحدة وتجديدها لمهمتها، والتصويت داخل هذه الجمعية موزّع بصوت لكل دولة".

وتابع المصدر الذي فضّل عدم الكشف عن اسمه: "تدرك العديد من الدول، بما فيها الغربية والأوروبية، الدور الحيوي الذي تلعبه هذه المنظمة للحيلولة دون تفاقم الوضع بشكل أكبر، والذي له تبعات ليس على القضية الفلسطينية فحسب، بل في الدول المضيفة". ولفت إلى أنّ "ما يثير الغضب أن المسؤولين في الأمم المتحدة عموماً يدركون أن جميع الأضواء مسلطة عليهم، وعلى كل خطوة يقومون بها، فما بالك إذا كنا نتحدث عن وكالة متعلقة باللاجئين الفلسطينيين. إذ تفوق أهمية أونروا ما تقدمه من خدمات يومية كالتعليم والصحة والتوظيف للاجئين الفلسطينيين، فهي تبقي قضيتهم حية، ولهذا ترغب إسرائيل والولايات المتحدة بتصفيتها بأي شكل من الأشكال".

وتحاول الولايات المتحدة وإسرائيل الطعن في مصداقية "أونروا" وعملها في أي مناسبة، بل إنّ السفير الإسرائيلي لدى الأمم المتحدة، داني دانون، ذهب في مقال رأي نشره في صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية في شهر يونيو/ حزيران الماضي، إلى الدعوة لاستسلام الشعب الفلسطيني وتفكيك الوكالة.

كذلك، ما إن بدأت التسريبات حول الانتهاكات والمخالفات في "أونروا" بالظهور، حتى سارعت السفيرة الأميركية السابقة للأمم المتحدة نيكي هيلي، لإعادة تغريد الخبر، الذي سربته شبكة "الجزيرة" بالإنكليزية، مع تعليق لها تقول فيه "لهذا السبب أوقفنا دعمنا لهم". وكانت الولايات المتحدة وتحت إدارة الرئيس دونالد ترامب وسفيرته هيلي، قد أوقفت الدعم بشكل كامل للمنظمة، في محاولة لشلّ عملها وتصفيتها.

وفي تصريحات خاصة بـ"العربي الجديد" في نيويورك، قال المتحدث الرسمي باسم الأمين العام للأمم المتحدة، ستيفان دوجاريك: "إننا مستمرون باعتبار العمل الذي تقوم به أونروا حيوياً للاجئين الفلسطينيين في جميع أنحاء المنطقة، فالوكالة تشكّل عن طريق عملها، قوة للاستقرار في الشرق الأوسط، ومن الضروري أن تستمر الدول الأعضاء في الأمم المتحدة بالوفاء بالتزامها تجاهها وتجاه الخدمات التي تقدمها". وأكّد أنه "علينا أن نميّز بين تلك الاتهامات الموجهة ضدّ أشخاص في الإدارة، وبين الحاجة لدعم أونروا والحفاظ عليها، وجعل خدماتها أكثر فاعلية، بالنظر إلى العمل الضروري الذي تقدمه للاجئين الفلسطينيين".

ولا تقتصر الانتقادات لـ"أونروا" ودورها على إسرائيل واليمين الأميركي الداعم لها، بل تطلق أيضاً من قبل فلسطينيين وداعمين لقضيتهم الإنسانية، ولكن لأسباب أخرى تعود لظروف إنشائها وطريقة إدارتها وتمويلها. وكانت الوكالة أنشئت بموجب القرار رقم 302 الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في ديسمبر/ كانون الأول عام 1949. وبحسب الوكالة، فقد تمّ إنشاؤها بهدف تقديم برامج إغاثية مباشرة لتشغيل لاجئي فلسطين في ظلّ غياب حلّ لمسألتهم. وتجدّد الجمعية العامة التابعة للأمم المتحدة عمل الوكالة بشكل متكرر، كان آخرها تمديد عملها لغاية 30 يونيو/ حزيران 2020.

ويرى المنتقدون وبعض الداعمين للقضية الفلسطينية، أنّ إنشاء "أونروا" جاء لامتصاص الغضب الذي نجم عن طرد أكثر من 750 ألف فلسطيني من ديارهم عام 1948، من قبل المنظمات الصهيونية وإسرائيل، ومنعهم من العودة. ومن المثير أنه وعلى عكس الوكالات الأممية الأخرى، كالمفوضية العليا للاجئين التي تعتمد على ميزانية المحاصصة الإجبارية، فإنّ "أونروا" تعتمد على التبرعات من الدول الأعضاء، ما يجعلها عرضة للضغوطات، ويصعّب على المسؤولين وضع خطط لمشاريع طويلة الأمد. ولكن أهمية الوكالة تكمن في تجسيدها للإقرار الدولي بانتماء اللاجئين الفلسطينيين إلى وطنهم فلسطين، وحقهم في العودة، وهو ما يفسّر تمكّن أبناء اللاجئين الذين تم تسجيلهم عند إنشاء الوكالة، من الاستمرار في الحصول على خدماتها، والأهم من ذلك استمرار توارثهم لحق العودة، أي حقهم الفردي في ذلك وليس فقط الجمعي. وبحسب تعريف "أونروا" العملياتي، فهي منظمة غير سياسية، و"لاجئو فلسطين هم أولئك الأشخاص الذين كانت فلسطين هي مكان إقامتهم الطبيعي خلال الفترة الواقعة بين يونيو/ حزيران 1946 ومايو/ أيار 1948، وفقدوا منازلهم وموارد رزقهم نتيجة الصراع العربي الإسرائيلي عام 1948".

لكن الاقتباس سالف الذكر، والذي يرد على الصفحة الرسمية للوكالة، لا يتحدث عن نكبة فلسطين، بل يستخدم مصطلحات قريبة من التوجه الإسرائيلي لوصف ما جرى، كالحديث عن الحرب العربية الإسرائيلية، في وقت لم تكن فيه إسرائيل موجودة أصلاً.

ويعتبر المنتقدون لدور "أونروا" كذلك، أنها جاءت لتقديم خدمات للاجئين، ما أدّى لتنصّل إسرائيل من مسؤوليتها المادية والأخلاقية عن مأساتهم. وعلى الرغم من نفوذ دولة الاحتلال والولايات المتحدة، فإنّ مسألة توطين اللاجئين الفلسطينيين في دول الجوار لم تحدث، وأضحت "أونروا" تلعب دوراً قد يكون بعيداً كل البعد عن هدف إنشائها، إذ أصبحت تشكّل الرمز والتزام المجتمع الدولي بضرورة حلّ قضية اللاجئين الفلسطينيين. ولا شك أنّ تأدية الوكالة لوظائف إضافية لم تكن مخططة، متعلقة بالحفاظ على حقّ العودة للاجئين، تقضّ مضجع دولة الاحتلال، وتفسّر هذا الهوس بكل كبيرة وصغيرة تتعلق بـ"أونروا".

المساهمون