أزمة عطش في أربيل... الموت من أجل قطرة مياه

أزمة عطش في أربيل... الموت من أجل قطرة مياه

06 اغسطس 2017
ربّ أسرة يملأ أوعية بالماء من حنفية عمومية(العربي الجديد)
+ الخط -

فشل الشاب الكردي هيوا خليل خوشناو لليوم الثاني على التوالي في استخراج ماء الشرب من بئر جوفي يقع قرب منزله، على الرغم من استخدامه مضخة كهربائية وأخرى يدوية وهي أدوات لا بد من توفرها في جميع منازل المناطق الشرقية والشمالية من مدينة أربيل المركز الإداري لإقليم كردستان العراق، من أجل تأمين الحصول على حصة من المياه التي يتم ضخها إلى المنازل عبر الآبار الجوفية كل يومين، في ظل أزمة مياه غير مسبوقة، ما دفع أهالي منطقة كسنزان الواقعة في شرقي أربيل للتظاهر يوم الجمعة الماضية للمطالبة بحل مشكلة المياه المتفاقمة.

ويتم تزويد حي كسنزان بالمياه الصالحة للشرب وفق نظام الآبار الجوفية المنتشرة في المناطق الشمالية والشرقية من المدينة، والتي يؤكد خوشناو أنها تشهد أعلى مستويات الأزمة مع بداية فصل الصيف، ما أجبر السكان على اللجوء إلى أساليب الحفر غير القانوني "عبر استخدام أنبوب أكبر من المرخص في تعليمات البلدية، أو شراء المياه من الباعة الذين يشكلون إحدى المظاهر التي أفرزتها الأزمة".

الشاب البالغ من العمر 24 عاماً أوضح لـ"العربي الجديد" أن جفاف أحد الآبار في منطقتهم أجبر المسؤولين في دائرة المياه التابعة لوزارة الزراعة والموارد المائية في إقليم كردستان على ربط المربع السكني بالبئر المجاور والذي بات يخدم منطقتين في وقت واحد بحيث يقوم المسؤول عن تشغيله بضخ الماء يوم واحد لكل مربع سكني، مستدركاً بأن البئر الحالي يعاني من الانخفاض الشديد في مستوى المياه ومهدد بالجفاف أيضاً.


أزمة نزوح

المشكلة ذاتها دفعت حسن صباح كرمياني إلى ترك منزله في حي دارتوه شمال أربيل، والانتقال إلى منزل مستأجر في منطقة هافلان وذلك للتخلص من نفقات شراء الماء من الباعة الجائلين إذ تضاعفت أسعار بضاعتهم وبعد أن كان خزان مقطورة المياه الصالحة للشرب من سعة 5 آلاف لتر يباع بمبلغ 10 آلاف دينار عراقي (8 دولارات أميركية) قبل عامين، بلغ سعر ذات الكمية 50 ألف دينار عراقي (40 دولاراً أميركياً).

قرار الانتقال اتخذه كرمياني بعد شهرين من الانتظار قضاهما في التناوب مع أفراد عائلته من أجل سحب المياه بواسطة مضخة كهربائية وفي أوقات متأخرة بعد منتصف الليل، بسبب بعد منزله عن بئر المياه الجوفية، ما يجعله آخر الحاصلين على الماء الذي ينقطع بشكل مفاجئ لعدة مرات في الساعة الواحدة، بسبب انقطاع التيار الكهربائي المغذي للمضخة الكبيرة الساحبة من البئر الجوفي.

ويوضح كرمياني لـ"العربي الجديد" أنه كان ينفق 40 ألف دينار، (ما يوازي 34 دولاراً أميركياً)" أسبوعياً من أجل شراء أربعة خزانات مياه "تبلغ سعة الخزان الواحد ألف لتر" من الباعة الجائلين الذين زاد عددهم وازدهرت مبيعاتهم وهي نفقات إضافية باتت تعاني منها أغلب العائلات الساكنة في حي دراتو ذي الطابع الفقير.

مظاهرة في كسنزان احتجاجاً على قطع المياه (العربي الجديد)



مشاجرات وجريمة قتل من أجل الماء

شهدت منطقة كسنزان حادثة قتل في يونيو/حزيران الماضي، بسبب مشاجرة حصلت على خلفية التزاحم الحاصل للتزود بمياه الشرب وفق ما كشفه ضابط في مديرية شرطة أربيل لـ"العربي الجديد"، مضيفاً أن الحادثة نتج عنها مجموعة من المصابين أيضاً.

ويضيف الضابط الذي يحمل رتبة رائد ورفض ذكر اسمه لعدم تخويله بالتصريحات الإعلامية، أن أزمة المياه كانت السبب في انطلاق أول تظاهرة ضد تردي الخدمات في مدينة أربيل، وذلك في شهر آذار/ مارس من العام الماضي وتم خلالها قطع طرق وإشعال الإطارات في مناطق بينج حساروك وهاوكاري وأحياء سكنية أخرى، مبيناً أن السيطرة على التظاهرة وإنهائها تمت بعد تعهد مسؤولين محليين بالتعامل السريع ومعالجة المشكلة.

وسجلت مراكز الشرطة في أربيل منذ بداية العام وحتى يوليو/تموز الماضي، 37 محضرا خاصاً بمشاجرات حدثت بسبب خلافات ومعارك المياه، وأغلبها يتلخص بالاعتراض على قيام بعض المواطنين بالسحب غير القانوني للمياه من الأنبوب الرئيسي، وهو ما يؤدي إلى حرمان المنازل المجاورة من الحصول على المياه كما كشف الضابط الأربيلي لـ"العربي الجديد"، مشيرا إلى وقوع إصابات بشرية وخسائر بالممتلكات جراء تلك المشاجرات.



انخفاض متسارع في مستوى المياه

يتابع مهندس الري أنور حمه السورجي انخفاض مستويات المياه الجوفية ضمن مهام عمله في مديرية الري بأربيل، ويقر السورجي بتسجيل معدل عال في عدد الآبار الجافة منذ بداية العام الحالي وحتى نهاية يوليو/تموز الماضي، مقارنة مع السنوات الماضية إذ بلغ عددها خمسة آبار رئيسية، بينما تم تسجيل جفاف بئر واحد في السنة الماضية 2016، وهو أمر يرجعه إلى تنامي أعداد السكان في الأحياء الشمالية والشرقية من أربيل، بسبب رخص أسعار المنازل فيها مع الاستمرار في الأسلوب القديم بتوفير المياه للسكان عبر استخراجها من الآبار الجوفية والتي من الممكن أن تجف في أي وقت ويبقى السكان بلا ماء في انتظار حفر بئر جديدة.

وتبدو معالم تزايد الأزمة في انخفاض كبير لمياه الآبار بمعدل يتراوح بين 8 أمتار وحتى 10 أمتار في آخر عامين، وهي نسبة تنذر بجفاف عشرات الآبار خلال السنوات الثلاث المقبلة، بعد أن كان الانخفاض في مستوى مياه الآبار يتراوح بين مترين و5 أمتار سنوياً في مناطق شمال وشرق أربيل، كما يوضح المهندس السورجي.


وبعد أن كان الحفر لمسافة 80 مترا كفيلاً بالحصول على المياه العذبة في أربيل قبل 10 سنوات تغير الحال كثيراً، وفقاً لإفادة السورجي الذي يبين أن الحفارات والمكائن العائدة لهم وللشركات الخاصة المتعاقدة معهم تمضي أياماً طويلة من أجل العثور على الماء، إذ بات الماء موجودا على عمق 450 مترا وأكثر، مرجحاً أن المعدل سيتصاعد بشكل سريع خلال السنوات القادمة.

وتتفاوت قيمة حفر البئر بحسب نوعية وجودة المواد المستخدمة مثل الأنابيب والمضخة الغاطسة وحجم البناء الذي يشيد فوق البئر والغرفة المخصصة للموظف الذي يقوم بدور الحارس والمشغل في نفس الوقت، كما أوضح السورجي لـ"العربي الجديد"، مبيناً أن الكلفة في المتوسط لا تقل عن 40 مليون دينار (31 ألف دولار أميركي) للبئر الواحدة.


مدير الموارد المائية: الأمل في مشروع الإفراز الرابع

يؤيد مدير الموارد المائية في حكومة إقليم كردستان، مسعود محمد، ما جاء في إفادة مهندس الري السورجي، مؤكداً المضي في مشروع الإفراز الرابع المائي والذي يعتمد على المياه السطحية ويستخدم التقنيات الحديثة في التعقيم والضخ، "ما سيعالج وبنسبة كبيرة جداً مشكلة شح المياه في مناطق أربيل، وخصوصاً المعتمدة منها على مياه الآبار الجوفية البالغ عددها 900 بئر تتوزع في أنحاء المدينة".

المسؤول الحكومي قال لـ"العربي الجديد" إنهم يتعاملون مع المشكلة الحالية بإجراءات حازمة وسريعة، ومنها التخصيص المباشر للأموال اللازمة لحفر آبار جديدة عوضاً عن الجافة ودون الحاجة للمرور بسلسلة من المعاملات والمخاطبات الرسمية، وكذلك التفاهم مع وزارة الكهرباء ما أثمر عن استلام 70 مولداً كهربائياً تعد حصة أولى لاستخدامها في زيادة عدد ساعات ضخ المياه من الآبار الجوفية إلى المنازل، وكذلك زيادة عدد ساعات التجهيز الكهربائي لمشاريع التصفية والآبار الجوفية، معرباً عن أمله في انخفاض حدة الأزمة في الوقت الحالي مقارنة ببداية موسم الصيف قبل شهرين.


تحذير من كارثة

على العكس من التفاؤل الذي يبديه مدير المياه، فإن الخبير الاقتصادي المتخصص في شؤون الري عبدالصمد المشهداني يرى أن عدم الجدية في التعامل مع ملف المياه ينذر بمصاعب ومشاكل ترتقي الى مستوى الكارثة، داعياً الى تحركات إنشائية تتضمن بناء سدود حفر خزانات وتشريعية تقوم بتشديد العقوبات على كل من يتجاوز بشكل غير قانوني لحصته المقررة من المياه الجوفية.

ويحتاج الإقليم إلى التحرك لاستغلال جميع كميات المياه عبر الخزانات والسدود على نهري الزاب وراوندوز، بما يؤمن مخزوناً مناسباً من المياه في فصل الصيف، كما يوضح الخبير المشهداني، مؤكداً ضرورة هذا الأمر في ظل انخفاض مستوى الأمطار وارتفاع درجات الحرارة، مستدركاً بأن تحركات حكومة الإقليم بطيئة جداً في هذا المجال.

ويلفت خبير الري في حديثه لـ"العربي الجديد" إلى أن التجاوزات المستمرة على المياه الجوفية وحفر الآبار لأغراض الري الزراعي وتجهيز المشاريع الصناعية يجب أن تتم مراقبتها بشكل أكثر صرامة، وأن يتم تعديل القوانين الحالية والتي لا تتجاوز العقوبة فيها مبلغ 250 ألف دينار عراقي (200 دولار أميركي)، على كل من حفر بئر بدون إذن رسمي وهو مبلغ زهيد قياساً بالضرر الذي يلحقه بالثروة المائية، بحسب المشهداني.

وفقدت حملات التوعية بمخاطر الهدر والدعوة الى الترشيد في استخدام الماء تأثيرها وأهميتها كما يقول مهندس الري السورجي، والذي يتفق مع الخبير المشهداني، مؤكدا أن هذه الدعوات فات أوانها ولم يعد لها تأثير كبير بعد انخفاض مستوى الماء من جهة وزيادة السكان من جهة أخرى.



مهن تعتاش على الأزمة

على النقيض من المشاكل التي خلفتها الأزمة فإن بائع المياه دلير بندياني رأى فيها فرصة لتوسيع تجارته في مبيعات المياه والتي كانت مجرد مهنة بسيطة وذات مردود مادي متواضع جداً قبل الأزمة.

بائع الماء الأربعيني اشترى أربعة جرارات زراعية مجهزة بمقطورات خزن للمياه ووزعها على أقربائه الذين يقودونها مقابل أجر يومي ويقومون ببيع المياه على ألف منزل في حي روشنبيري شرقي أربيل و480 منزلاً في حي جيان بعائدات تقدر بـ 125 ألف دينار (100 دولار أميركي) للجرار الواحد في اليوم.

ولفت تاجر الماء نظر معد التحقيق إلى مهن أخرى خلقتها الأزمة ومنها التي يقوم بها ابن عم له مختص بالحفر غير القانوني من أجل السحب المباشر من الأنبوب الرئيسي المغذي للمياه والذي يتقاضى عنه 25 ألف دينار (20 دولار أميركي) وهي عملية يكررها أربع مرات في اليوم الواحد كحد أدنى.

من جهته، يشير تاجر العقارات إبراهيم برادوستي إلى أن أزمة المياه خلقت توزيعا جديدا لأماكن السكن وهو معيار جديد للباحثين عن المنازل، إذ باتوا يسألون عن توفر المياه ونظام التزود بها مما جعل المناطق المخدومة بمشاريع الإفراز الحديثة وذات الضخ اليومي للمياه هي الأكثر طلباً والأعلى سعراً، بينما سجلت المناطق المخدومة بنظام الآبار تراجعاً كبيراً في الطلب على شراء واستئجار المنازل، وهو ما جرى في حالة الشاب خوشناو الذي يسهر في انتظار سحب الماء قائلا لمعد التحقيق، "النقاشات التي دارت مع زوجتي وأخيها الساكن بالقرب منهم أسفرت عن الاتفاق على انتظار هذا الصيف فقط، قبل اتخاذ قرار الرحيل وبيع المنزل وتدارك الهبوط المستمر في سعره بسبب أزمة المياه أو لعنتها" كما يسميها.