أزمة حدود أم أزمة دولة أم أزمة أخلاق؟

أزمة حدود أم أزمة دولة أم أزمة أخلاق؟

08 يوليو 2018
+ الخط -
ماذا لو عطس السيد مارك سايكس، المندوب السامي البريطاني لشؤون الشرق الأدنى، أو نظيره الفرنسي جورج بيكو، وهما يرسمان يوم 16 مايو/ أيار 1916، حدود دول العالم العربي، ماذا لو اهتزت يد أحدهما حينها، وهي تمسك بالقلم؟ ألم تكن لكل كل التحيّزات والعنصريات والاختيارات التي يظن بعضنا أنها واعيةٌ ومبنيةٌ لتنهار؟ أليست الحدود من الهشاشة بمكان لتخرج منّا أسوأ ما فينا ككائنات إلى هذه الدرجة؟
دائمًا أستحضر هذه الفكرة لنفسي، حينما أجدها تنزلق ولو قليلًا لموقف هوويٍّ ما. والآن، يبدو أننا جميعًا في حاجة لنتأمل هذه الفكرة في ظل ما يحدث على الحدود الشماليّة للأردن، حيث يتجمع آلاف من الهاربين والنازحين والمهجرين من منطقة درعا، هربًا من بطش نظام الأسد، ومن عاونه من هنا وهناك لسفك دم شعبه بذرائع مختلفة، كلها تصب في تخليده على عرش الدم والدولة.
ليس الأسد، ولا نظامه، هو المستهدف بهذه الأسطر، إنما نحن؛ نحن الذين بات تعاملنا مع فكرة الحدود محدّدًا لدورنا في المذبحة، وحالنا الأخلاقي والإنساني فيها. إذ تتكاثر في الأردن أصوات تنادي بإغلاق الحدود، وترك هؤلاء العالقين لمصيرهم في أتون حربٍ لا تعرف إلا مزيدا من شهوة القتل والدم والتهجير، وتتعدّد هذه الأصوات في منطقها تعدّدًا هشًا ولا أخلاقيًا، إلا أنه يشي عن حجم الأزمة لديها، ليس فقط في سؤال الدم والمعاناة والواجب الأخلاقي حينها، ولا في سؤال الموقف السياسي، وهو السؤال المتهافت أمام الدم، وهو غير مطروحٍ في هذه السطور، وإنما سؤال الدولة والحدود.

يتنادى المنادون بإغلاق الحدود في وجه السوريين النازحين من درعا بالقول إنهم إرهابيون، وعلى أبسط وصف، (بساطته لا تغطي وضاعته) أن من بين هؤلاء النازحين قد يتسلل إرهابيون، وما أن تخرج هذه العبارة الكليشيه، حتى يتعرّى قبح الموقف أكثر وأكثر. فهؤلاء لم يتكلفوا عناء النظر في معاناة السوريين، وأصدروا حكمًا من وراء شاشات هواتفهم الذكية وحواسيبهم، ليحكموا على من قصفته البراميل المتفجرة، وهاجمته قطعان الشبّيحة، وهُجر من منزله بعد أن اعتقل ذووه، وطارت فوق رؤوسهم طائرات روسية، لا منطق لوجودها في سماء سورية، تحمي المليشيات الإيرانية التي قتلت من قتلت، ليغدو السؤال، على وضاعته، مطروحًا: ما الذي تبقى للسوري والسورية أن يقدماه أكثر من هذا، ليمنَّ عليهما بعضهم بالملجأ والحماية؟ أو بشكلٍ آخر: ما الواجب على السوري أن يدفعه أكثر من ذلك، لكي يُمنح احتماليّة: قد لا يكون إرهابيًا!
يتساءل سؤال غير بريء على سذاجته (وحتى هذه تدين صاحبها المتثاقف)، سذاجة لن تستر خسّة أخلاقيةً تجاه المعاناة وتواطؤًا (تشبيحًا) مع القمع: ما الذي دفع أهل درعا إلى اللجوء إلى الأردن تحديدًا، وليس إلى السويداء أو بصرى؟ أليس في الأمر ما يريب؟
ما المُراد فعلًا بهذا السؤال؟ ألا يجهل صاحبه أن الروابط القبليّة والعائلية والمناطقيّة والعشائريّة والثقافيّة بين منطقة شمال الأردن ودرعا هي أقدم من حدود سايكس - بيكو، وما زرعته من ممالك وأنظمة ودول؟ ما الذي يستحضره هذا الوعي المدّعى والكاذب بالجغرافيا في تساؤلٍ كهذا؟ هو ببساطة تساؤلٌ ينبني على فكرة الحدود/ الدولة، وليس على فكرة الإنسان كامتداد (والأغرب أنه صادر من أشكال تتثاقف علينا ليل نهار). أمام هذا التساؤل، علينا أن نستحضر السياق العالمي، وتنامي الخطاب اليميني فيه، ولعل نموذجه (نموذجهم) الأبرز هو الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، بكل ما يمثله من "ثورة الرجل الأبيض" الرأسمالي على شعوبٍ من الواضح أنها ترفض هيمنته على الجغرافيا وحق الحياة والموت. لا يختلف خطاب هؤلاء في بنيته عن ذرائع الأميركي الأبيض الترامبي في بناء سور مع المكسيك، بل وقد يدّعي أمثال هؤلاء (بحجة أن لموقفهم إمكانا لطرح منظور مختلف تجاه سؤال الأخلاق!) كما اقترحت إدارة ترامب أن يأخذوا الأطفال من ذويهم بحجة إدخالهم إلى النعيم الأميركي، وفي حالة هؤلاء الأردني.
ثمّة أزمة ما تعانيها الدولة، ويعانيها من يفكر بمنطقها في التعامل مع أزماتٍ كهذه، ولنأخذ مثالًا ما أسّست له الدولة المصريّة عشرات السنين من نظرة دونية تجاه سيناء المكان والسيناوي/ة -الإنسان/الفكرة، إلى أن جاء "الحراك الثوري العربي" (وليس الربيع العربي) ليعيد تشكل حدود المكان وحدود الإنسان وجماعته العضويّة، وهو ما تحاول الدولة المصرية، في أحد أعنف رداتها المضادة للثورات، أن تفعله الآن في سيناء من هدم للمكان والإنسان، باسم "محاربة الإرهاب"، إلا أن الأمر في الأردن مختلفٌ قليلًا، ولا بد من الإشارة إلى أن هؤلاء المتثاقفين ومواقفهم اللاأخلاقية، ومنطق الدولة والحدود الذي يحملونه، ولا يرون إلا من خلاله، هو أمر منفصل عن الوعي الجمعي العام للأردنيين، بمنطق الآخر والحدود، وما على الدولة فعله، إذ تعدّدت المبادرات والحراكات المنادية بفتح الحدود، ليس ذلك فقط، إنما خرجت مجموعاتٌ لتقديم المساعدة، وإجبار الدولة على فتح الحدود. في النهاية، الدولة هي المؤسسة الواجب عليها الخضوع لإرادة المجتمع والمتفق الجمعي فيه.
بالعودة إلى مصطلح "محاربة الإرهاب"؛ هذا المصطلح الفضفاض، والذي يدفع ثمنه في الغالب العربي والعربيّة، هو المصطلح نفسه الذي يتماهى معه هؤلاء في دعواتهم إلى إغلاق الحدود في وجه النازحين. وهو ما يشي بأزمةٍ عميقة تعانيها الدولة الحديثة في الأردن، في التعامل مع "الإرهاب"، أليس حريًا بدولة كالأردن، يخرج فيها علينا ملكها بفيديو كليب له ولابنه "يحاربون الإرهاب" "بالذخيرة الحية" أن تكون قادرةً على تعريف الإرهابي، قبل
استخدام "الذخيرة الحية" ضده؟ أوليس من العوار الأخلاقي الذي تواجهه الدولة (سؤال الأخلاق دائمًا مقتل المؤسسة/ الدولة) افتقارها لمنظومة إجرائيّة (قانونية أو غيرها) قادرة على تحديد الإرهابي من غيره؟ وإجراءات قادرة على أن تتعامل مع هذا الوضع من دون "الذخيرة الحية"، والتي تشي، في النهاية، إلى أزمة في التعامل مع "الإرهاب"، لا تختلف عن الأزمة العالميّة في التعامل معه، والتي تتبدّى نتائجها عالميًا في هذا الهوس اليميني بفكرة الحدود، وشيطنة الآخر، وبناء المعازل والسجون التي يهلل لها كثيرون من هؤلاء المتثاقفين في بلادنا بحجة "التنوير"، لأن آخرهم بات فيها.
اللافت أن هذه الدعوات اليمينية الهوى، والمتلبسة عوارًا لبوس اليسار والأخلاق، إنما تصدر من/ في الأردن، والذي يُعد اللجوء والنزوح مكونًا أساسيًا في نسيجه، وصيرورته. إلا أن للتوقيت دلالته، فالأصوات المدافعة عن فكرة الدولة والحدود تأتي ردًا على محاولات رسم حدود الجماعة العضوية الأردنية، على تعدّد مكوناتها، بمعزل عما تفرضه الدولة على الجماعة من مكونات هووية، فكانت الموجة الأولى في مظاهرات الدوار الرابع منذ أسابيع، والتي أثارت رعب مراكز الثورة المضادة في المنطقة، فهرعوا إلى المساعدة الاقتصاديّة، والآن هذا التنادي لمساعدة أهالي درعا العالقين على حدود الدولة والأخلاق.
B46E8965-E2BD-4AC0-840E-AD5D19B54495
عبدالله البياري

باحث وأكاديمي جامعي فلسطيني، متخصص في النقد الأدبي والدراسات الثقافية، وله مقالات وبحوث منشورة في صحف ومواقع ومجلات عربية.