أزمة الشرق بين إسلاميْ العادات والمعرفة

أزمة الشرق بين إسلاميْ العادات والمعرفة

03 مارس 2020

ماليزية تقرأ القرآن الكريم في مسجد بكوالالمبور (26/5/2017/الأناضول)

+ الخط -
تشير المصادر البحثية إلى أن فان فولنهوفن، وهو باحث استشراقي هولندي، أبرز من تبنّى بعث وتنظيم العادات في الأقاليم المسلمة المحتلة، ووضعها قانونا محليا يعالج قضية المرجعية القضائية، وإدارة الأوضاع المحلية في جزر الهند الشرقية (إندونيسيا ومحيطها). جاء عمل فولنهوفن ضمن إيمان الكولونيالية الغربية بضرورة تنحية الشريعة الإسلامية كعامل توحيد يشكّل خطراً على المسيحية، وأن البديل كوسيلة سياسية هو جمع العادات المحلية، لتكون قانونا ثقافيا يوحّد إطار التقاضي والإجرائي لسكان المناطق المحتلة، بعد أن يُقصى هذا الخطر. 
واضحٌ هنا أن إشارة الباحثين إلى دور البعد العلماني في المشروع يقوم على فكرة تحييد الأصل التشريعي الجامع أقاليم المسلمين المحتلة، في جزر الهند الشرقية، وهو بعدٌ علماني مدني مشوّه، تضمن فيه الكولونيالية عزل الديمغرافيا المحتلة عن أصول الفكرة التوحيدية لشعبها، من دون أن تفتح المجال لهذه الشعوب لوعي مرجعيتها التشريعية، وعياً معرفياً عبر الآلة المدنية الحديثة التي ستشكل معاً رافعة تطور تنفيذي مقاصدي لأصول الشريعة، وقوة تضامن شعبي تهدّد مشروع الكولونيالية الغربية.
الأزمة التي اصطدم بها الغربيون، في مواجهتهم هذا الإرث المتنوع في أصوله العرقية والثقافية، وفي أنحاء متباعدة تفصل جغرافيا الجزيرة العربية آلاف الكيلومترات عن شرق آسيا، وقبلها آسيا الهندية، وكلها أقاليم دخل إليها الإسلام واستقرّ فيها، قرونا طويلة، فظلت تكتسب 
صفاتها المحلية وثقافتها، من دون أن تُسقط معالم الرسالة الإسلامية في وجدانها.
ولنلاحظ هنا في توسعة جغرافيا التعدّد الإسلامي مع العالم الكوني واقع العرب المسلمين وحضارتهم، في الأندلس، وكيف لو أن الحملة المسيحية لم تبد الوجود الإسلامي وتستأصله. ما الذي تعنيه لنا هنا هذه الجغرافيا الممتدة، في عالم اليوم، من دون أن تكون لهذه الرسالة أو تلك قوة الحكم.
إنما المعيار هنا عبر الحضارة واحتضانها، والذي لا يُقاس على تاريخ حروبٍ ومعارك، بقدر ما يُقاس على بقاء الأمم وتعايشها، التي تأتي دلالتها فوق جرائم الحكام بحسب جريرتهم، في هذه الأمم المتعدّدة. وبالتالي، كان أمام الآلة الممهدة لإعادة صناعة الشرق، بعد قهره ونزع كينونته الحضارية، تنحية هذه المعالم الأساسية العجيبة في وحدة الشرق المسلم الذي احتوى الطوائف المتعدّدة، بما فيها البقاء البوذي والهندوسي وغيره، لصناعة العالم الجديد، كسلة استثمار موارد بشرية، وسلة استنزاف اقتصادية ضخمة، بغض النظر عن خلاف وائل حلاق مع إدوارد سعيد المستمر في كتابه "قصور الاستشراق"، حيث يرى حلاق أن هناك مشكلة عميقة في الأولويات التحليلية للكولونيالية لدى سعيد.
غير أن مفهوم إسلام العادات لا يقصد منه أن هناك إسلاما متعدّدا، من حيث الجوهر الإيماني، والأصول الفلسفية والمقاصد التشريعية الكبرى، وإنما من خلال ما يبرز من تناقضات تطبيقية كبرى، هو أيضاً خلل ضرب الشرق وتاريخ المسلمين في وقت مبكّر. والدلالة لهذا الانحراف 
وردت في النص التشريعي نفسه لأحاديث نبي الرسالة، صلى الله عليه وسلم، وقد حدّدها عمر بن عبد العزيز، في خطبته التي استبقت توليه الخلافة. وهو تماماً ما يمكن الإشارة إليه بعادات بني أمية الجاهلية في التسلط، على الرغم من أن الحضارة العربية في عهد بني أمية، وفي جناحهم في الأندلس، لا يمكن مقارنتها بأدوار انحطاط العهدين العباسي والعثماني. ولكن الدلالة هنا قوية ومهمة لفهم تاريخ فقدان حاضر العالم الإسلامي بوصلة الوصول إلى موازين العدالة والمعرفة والتقدم الحضاري، وهيكلة الدولة المعاصرة في كل عهد، فهيمنة بني أمية ثم بني العباس عبر النزعة التسلطية لفرض التوريث، ثم تحوّلها، في بعض كتب التراث، إلى أبواب للفقه! هو من هذه الشواهد لتنحية الرسالة الإسلامية عن موازين العدل، عبر نموذج التطبيق.
ولنأخذ هنا مثلاً آخر لفرض إسلام العادات في ثقافة الضمير المسلم أو بعضه، بحسب الجغرافيا التي يسود فيها، فنلاحظ أن البأس القومي والتتري القديم قد انسحب على السلطنة العثمانية، وأصبحت تلك الطباع في الحكم، بما فيها مجازر ارتكبت، كاجتياح السلطان سليم مصر وغيرها، نلاحظ هنا أيضاً أن هذه العادات القومية، ذات البأس، قد تحوّلت أيضاَ في كتب أخرى إلى نوع من الفقه الاستدلالي.
ونتابع اليوم الجدل المعاصر الذي يستدعي ذلك الفقه، وذلك التاريخ، ليس في ما رشدت فيه 
الأمة، ولا في إقامتها مقام العدالة السياسية وسعيها في النماذج الإيجابية إلى توسيع العدالة الاجتماعية، وإنما في الاحتجاج بإسلام العادات على رفض إسلام المعرفة، في جانبه السياسي وصور تنظيم المجتمع المدني الحديث، وقس على ذلك ما هو دون الحكم، من القوانين أو الأعراف أو الطبائع. وهنا سيقفز احتجاج قوي، كيف تضرب مثلاً بسوء واقع المجتمعات المسلمة، من خلال سيادة تلك العادات التي فرضها الخلل الذاتي، ثم جهود الكولونيالية، في حين تدلّل على قوة الحضارة الإسلامية في بقائها على الرسالة الإسلامية وتمسّكها بها، على الرغم من تعدّدها القومي واختلافات ألسنتها وطبائعها.
هنا فارق مهم للغاية، فالأصول الإسلامية وقانون أخلاقها المركزي، لا يتسامح مع صفات الظلم أو الإضرار، والبغي على المستضعفين، ويدفع في كل البيئات إلى سلوك العلاقات الإيجابية والإحسان. ولا يبرر لأي سلطنة أو إقليم التحايل الطبقي أو الاقتصادي على المستضعفين، فهذا الاحتجاج باطل في أصول الشريعة، غير قابل للتأويل، ولك أن تتصوّر حجم التزوير الذي مورس في تاريخ المسلمين، لتوسعة النخاسة واستعباد الناس، ولم تقم هذه الحروب أصلاً على شروط المواجهة الإسلامية، ولا مقاصدها. وقام بعضها على التوسع وسياسة الحروب الموظفة لمصالح الحكم أو عصبيته، وكيف أن نظام الحرب في الإسلام الذي يفتح الباب على مصراعيه لإطلاق الأسرى واستبدال الأسر بخيارات متعدّدة، قد أغلقت فيه هذه الروح وأطلق لتجار النخاسة البغي على الأبرياء باسم "إسلام العادات" الذي ينقضه إسلام العدالة والمعرفة.