أزمات الإخوان المسلمين مع الدولة المصرية.. خسوف العقل السياسي

أزمات الإخوان المسلمين مع الدولة المصرية .. خسوف العقل السياسي

08 مايو 2020

لوحة من مقر "الإخوان" بالقاهرة بعد حرقه (1/7/2013/فرانس برس)

+ الخط -
يثير مرور ثماني سنوات على اتخاذ جماعة الإخوان المسلمين المصرية قرار المشاركة في انتخابات رئاسة الدولة النقاش بشأن القرارات المهمة في تاريخ الجماعة، وخصوصاً تلك المرتبطة بمحاولات تشكيل المجال السياسي ومدى تأثيرها على طبيعة التحولات الداخلية في الحركة، وفي هذا السياق، يمكن إضافة حالتي حرب فلسطين 1947 – 1948، والحرب في أفغانستان 1979 – 1989، بحيث ينصب التناول على مدى إدراك الإخوان المسلمين التعقيدات السياسية. 
الإخوان والانخراط السياسي
تبدو أهمية استصحاب الظروف السياسية في قراءة إدراك جماعة الإخوان المسلمين الانخراط في الحالات الثلاث، وذلك على أرضية الاقتراب من أسس بناء الموقف السياسي، ومدى اعتباره بالمعادلات القائمة في الدولة وتعقيداتها. وفي سياق التدافع المصري للحرب في فلسطين، شاركت الجماعة بدور مهم في عملية القتال ضد الحركة الصهيونية، وبدأت في تنظيم حملات المتطوعين، وقد جاءت مساهمتها تحت إدراك مشترك لمخاطر الأمن القومي، فيما شاركت الدولة المصرية رسمياً في وقت متأخر من بدء الحرب، وتركت الساحة للمتطوعين في المرحلة الأولى الحاسمة.
وقد انخرط "الإخوان" في الحرب في ظل حالة ارتباك في الدولة، وكان أول مظاهرها ارتباطهم بحكومة إسماعيل صدقي، مارس/ آذار ـ ديسمبر/ كانون الأول 1946، على الرغم من تقاربه مع الأفكار والمصالح البريطانية، ما يلقي ظلالا حول تماسك مواقف الحركة تجاه القضايا الوطنية، كما أن تداعيات الحرب العالمية الثانية رتبت أولويات السياسة المصرية في استكمال الاستقلالين، السياسي والاقتصادي، وخصوصاً مع تزايد النفوذ البريطاني ورعايته المشروع الصهيوني، ولعل الصراعات بين الأحزاب السياسية شكلت حالة استبعاد سياسي، جعلت جماعة الإخوان المسلمين على يسار الدولة والأحزاب السياسية، بحيث لا يبدو أفق لتسوية الخلافات مع الجماعة. غير أنها دخلت في مزايدات، فعلى الرغم من ظهور مؤشّرات توجه الدولة نحو إقصاء الجماعة في 1947، تضمنت بعض مقالات مؤسس الجماعة، حسن البنا، لغة وصائية، لم تقتصر فقط على التقييم السلبي للسياسات الحكومية، ولكنها كانت تطالب بإجراء إصلاحات هيكلية في الجوانب الدستورية والتنظيمية. وهنا، غابت القدرة على إدراك المتغيرات الجديدة غير المتوافقة مع استمرار الحركة ضمن المنظومة السياسية.
وفي حالة حرب أفغانستان، وعلى الرغم من الخلافات بينهما، تلاقى "الإخوان" مع دعوة الرئيس 
أنور السادات إلى "النفير العام" لدعم أفغانستان ضد التدخل السوفييتي، لتقوم بحملة حشد واسعة لدعم "الجهاد الأفغاني"، وعلى أساس مفهوم ساذج للجهاد. استمرت الحملة في سنوات حكم حسني مبارك الأولى حتى 1989، حيث ساد العلاقة هدوءٌ نسبي، استفادوا فيه من فتح مجال المشاركة السياسية في الانتخابات التشريعية والنقابية. وبهذا المعنى، يكون انخراط جماعة الإخوان تحت مظلة توافق دولي على دورها، ما دفعها إلى الانخراط في عملياتٍ لتنسيق الحشد بالتوازي مع تكوين "التنظيم الدولي"، ليقوم مركز الجماعة في مصر، ودول أخرى، بالعمل تحت مظلة منظمات رسمية وأهلية لنقل الأفراد إلى أفغانستان.
في تلك الفترة، كان الاتجاه العام للإخوان المسلمين إلى التضامن الكامل مع الحرب في أفغانستان، في ظل تفاهم مع مصر والسعودية، فيما رأتها كتابات محدودة حربا أميركية، ففي وقت مبكر من الحرب، راجت كتاباتٌ عن الفتاوى وكرامات الشهداء صارت ملهمة للشباب للانخراط في الجهاد، وشكلت مجلة "الدعوة" ثم "لواء الإسلام" ومؤتمرات نقابة الأطباء والمهندسين الوسائل الأساسية لنشر محتوى تحفيزي للحملات التعبوية.
وعلى الرغم من التوافق مع الاتجاه العام في الدولة، حاولت جماعة الإخوان تصنيف ملف الجهاد الأفغاني ملفا خاصا بها بشكل زاد من انعدام الثقة، وهو ما يفسّر دواعي التحقيق مع الداعية والناشط الإخواني، محمد كمال الدين السنانيري، بعد زيارته أفغانستان. وعلى الرغم من هذه التناقضات، فضلت الجماعة الانخراط في تسيير الشباب لتقوية روابطها الاجتماعية، ما يشير إلى أن معظم الإدراك السياسي اقتصر على العوامل المحلية، وتجنب التفكير في طبيعة الصراع في أثناء الحرب الباردة.
وعلى مستوى التجربة الثالثة، ساهم اهتزاز الخط السياسي لجماعة الإخوان في عقود حسني مبارك في التأثير على موقفهم من الخروج عليه، حيث تراوحت بين المشاركة في الاحتجاج وإمكانية الدخول في تسوياتٍ في أثناء الاعتصام في ميدان التحرير، غير أنه مع تزايد الانقسام بشأن مبارك، انتهت الجماعة إلى الاستمرار في الاحتجاج حتى تنحّيه، وقد مهدت هذه الأرضية لظهور عدة قفزات، لم تحظ بالدراسة الكافية، بقدر ما عبرت عن انحيازات القيادة، سواء ما يتعلق بالانتخابات التشريعية أو الرئاسية.
في تلك الفترة، قامت الافتراضات على أن الوضع التنظيمي يشكل رافعةً كافيةً للاستحواذ على قسط وافر من المجال السياسي، ولهذا ارتبطت تقديراتها لدخول انتخابات الرئاسة في العام 
2012 بوجود فرصة سياسية لتطوير نفوذها، وبرّرت موقفها المخالف لقرار سابق بالقلق على مصير مجلس النواب وترشيح عبد المنعم أبو الفتوح، وبغض النظر عن حقيقة التبريرات، دخلت الجماعة في حملة ماراثونية لتأكيد ترشيحها عبر مرشّح وبديله، بشكل يتقارب واستراتيجيات انتخابات الاتحادات الطلابية في المدارس، وليس رئاسة دولة يكون عمادها المرشح ورؤيته وتصوراته الخاصة لإصلاح الدولة. ووفق هذا التوجه، أضيفت تبريرات أخرى، استندت إلى تلقيها طمأنة من بلدان أوروبية والولايات المتحدة.
تداعيات الانخراط في الأزمات الثلاث
تتلاقى آثار وتداعيات الأحداث الثلاثة في أن جماعة الإخوان المسلمين حققت بعض المكاسب الجزئية فيما لحقت بها خسائر صافية وكارثية في بعض الحالات، فقد شكلت حرب فلسطين عاملاً مهماً في الكشف عن تركيبة الإخوان المسلمين، وانخراط غالبيتهم في العمل الجهادي والتدريب القتالي، وقد يشكل هذا الوضع خلفية قرارات الحكومة بحل الجماعة ونزع سلاح المقاتلين في فلسطين واعتقالهم وتقديمهم للمحاكمة. وتتماثل في هذا النطاق الأزمات التي شهدتها في سنوات 1947 ـ 1950، حيث فقدت قدراتها الاقتصادية والتنظيمية بشكل حال دون ظهورها حتى 1952، وهو ما أحدث إشكالات بشأن طبيعة مساهمتها في إجبار الملك فاروق على التنازل عن العرش، في ظل ضعفها التنظيمي والمالي، غير أن الأحداث بين عامي 1952 ـ 1954 تقترب بالجماعة من النمط التوظيفي لحساب تنظيم الضباط الأحرار، بحيث يقترب من أن مشاركتها كانت أقرب إلى الاستظهار للتخلص التدريجي من خصومه، ثم التخلص منهم بعد وقت قصير من اندلاع ثورة يوليو، وهذا ما يتقارب مع حالة انحسار الجماعة في نهاية أربعينيات القرن الماضي.
وفي حالة أفغانستان، انشغلت جماعة الإخوان المسلمين في بلدان مختلفة في تسيير أفواج الشباب بما شكل فائضأ عن النشاط الإغاثي. وحسب برامج التعبئة، اتجه قسم كبير إلى الارتباط بـ" مكتب خدمات المجاهدين" لأجل الانخراط في الأعمال القتالية، ما شكل ثقافة انتشاء عقيدي نحو اقتراب إقامة الدولة الإسلامية عبر توسيع نطاق الحرب، لكن ظهور حركة طالبان دفع نحو تفكيك تشكيلاتهم الغضّة، وتعميق ارتباطهم بأجهزة استخبارات عديدة، ليصبح "المجاهدون" السابقون أدواتٍ في صراعات دولية أخرى أو منظرين للعنف العالمي. وفيما يخص مصر، ظهرت قضايا من نوعية " العائدون من أفغانستان" و"الأفغان العرب" لتشكل مرحلة جديدة من أزمة الحركة مع الدولة، فبعد انتهاء الحرب في 1989 غيرت الدولة سياستها تجاه الجماعة، وبدأت في إبعادها عن المشاركة السياسية، وتصاعدت الأزمة مع بدء سلسلة من المحاكمات العسكرية.
وكان لتجاور حركات الجهاد الأفغاني الرئيسية، الإخوان المسلمين، الجهاد، والتكفير والهجرة، وتلقيهم تدريبات قتالية عالية الكفاءة، بالإضافة إلى العقيدة الأيديولوجية القائمة على استخدام السلاح لحسم الخلاف السياسي، ما شكل عوامل القلق الأمني، ووضعهم على قوائم الترقب. وبالتالي، انصرف كثيرون منهم إلى البقاء خارج مصر والانخراط في سلسلة تنظيمات جهادية تقع أسيرة نفوذ حكومات متعدّدة.
وقد جاء وصول الإخوان المسلمين إلى رئاسة الدولة في ظل تباعد العلاقة بينهم وبين 
البيروقراطية حتى انتهاء سنة حكم الرئيس الأسبق، محمد مرسي، وهو خلاف ينطوى على الجدل حول الحفاظ على معادلات القوة والسلطة المستقرّة منذ ثورة يوليو في 1952. وبهذا المعنى، يعد دخول "الإخوان" إلى منصب الرئاسة اختراقاً عشوائياً للترتيبات القائمة، بما يمثل تهديداً للجمهورية، وهذا ما يفسّر حسم البيروقراطية لحماية القواعد العامة للنظام السياسي.
وعلى الرغم من هذه التناقضات، لم يتغير إدراك الإخوان المسلمين اتخاذ التصرّف المناسب إزاء الخلاف الواسع بشأن وجودهم في السلطة، وظلت تؤسس موقفها على نمط ثنائي مكافئ للمؤسسة العسكرية، ما شكل مدخلاً مثالياً لوقوعها تحت أزماتٍ متتاليةٍ، ترتب عليها تقويض قدر كبير من قدراتها التنظيمية والمالية، بحيث صارت تواجه مشكلات التفسخ الاجتماعي، بالإضافة إلى ظهور اتجاهات عنفية مبعثرة.
تفسير أزمات الإخوان
يمكن تفسير هذه النتائج من مدخل احتكار التنظيم، بطابعه الإداري، التفكير الدعوي والسياسي، على الرغم من عوزه القدرة على التأويل والاستنباط، ما أدى إلى دخوله في مغامرات سياسية لم يستوف الشروط اللازمة لقراءة أبعادها السياسية أو لالتقاط المصلحة وفق الاجتهاد الشرعي المناسب. وعلى الرغم من تقارب دخول الحرب في فلسطين وأفغانستان مع أدبيات الإخوان المسلمين، لكنه لم يستند إلى تأويل واضح، خصوصاً ما يتعلق منها بتحديد الأولويات، فقد كان موقفها من النظام الدولي مختلفاً في الحالات الثلاث، كما كانت قليلة الاهتمام بفهم التركيبة الداخلية في الدولة، واعتبرتها سهلةً يمكن التغلب عليها.
وهنا، يصعب فصل الاستجابة السريعة لمقاومة الشيوعية في أفغانستان عن علاقة الإخوان المسلمين بالعربية السعودية منذ ستينيات القرن الماضي، عندما استقبلت قسماً كبيرا من أعضائها، وسمحت لهم بالعمل باعتبارهم جزءا من الخلاف مع تجربة القومية العربية، الناصرية، ونظراً إلى تحسن العلاقات مع مصر في بداية حقبة السادات مع تحولها إلى المعسكر الغربي، ليتزايد تقارب "الإخوان" مع الأضلاع الثلاثة ضد الاتحاد السوفييتي، وتتحمّل جزءا من عبء الحرب، نيابة عن الولايات المتحدة وحلفائها الإقليميين.
ولعل الجانب المهم يتمثل في التحولات الفكرية، فبينما استمر قسم من العضوية تحت مظلة التنظيم التقليدي بأفكاره الدعوية أو الاستقطابية، فقد خرجت مجموعات أخرى بأفكار عنفية أو تكفيرية. وتتماثل هذه النتائج في الأزمات الثلاث، فبغض النظر عن الجدل حول حوادث الاغتيال في أربعينيات القرن الماضي، كان التحول إلى العنف سلساً بعد معايشة السلاح في حرب 
أفغنستان فترة طويلة، حيث انتقل قسم كبير من المشاركين في الحرب إلى التنظيمات الجهادية، بطريقةٍ تكشف عن الانتقال السهل من حالة الدعوة السلمية إلى العنف. وتكمن خطورة هذا الانتقال، ليس فقط في جذور التربية الجهادية، ولكن في ضعف القدرة على التأويل الديني والسياسي لاستخدام السلاح، فبينما كانت تلك الاجتهادات ضد السوفييت والروس، ثم الولايات المتحدة، حدث تطويرٌ ليشمل الحكومات الوطنية، وهو ما ظهر في حوادث منظمة في مصر في العام 2015، تحت دعاوى "إسقاط الانقلاب"، ومن دون الاهتمام بمشروعية القتل أو تخريب المنشآت، لكنها سرعان ما تسببت في خلافاتٍ بين أقسام مختلفة في الجماعة، من دون وضوح التأصيل المتبادل للوصول إلى هذه الاجتهادات المتناقضة.
وتشير القابلية للانتقال إلى العنف لوجود وعي كامن يظهر حسب تغير الظروف، وتعد النتائج، منذ حرب أفغانستان، لتواتر الخلفية العنفية في الوعي الكامن، غير أن التراجع عنها أو إنكارها يرتبط بضعف القدرة على تأسيسس الرأي أو في أوقات الانحسار، فهي تتأسّس على خصائص المناهج الثقافية والتربوية القائمة في معظمها على رواية واحدة لتمجيد أفعال الجماعة والاهتمام الواضح بمفاهيم سورتي "الأنفال" و"التوبة"، بشكل يرسّخ الوعي بالقيم التنظيمية، ويخل بتكوين إطار معرفي متكامل عن الإسلام.
على مدى هذه الأزمات، استهلكت جماعة الإخوان المسلمين ثلاثة أجيال من دون تحقيق إنجاز واضح، ما يعطي مقاربة لارتباط خياراتها السياسية بدور تاريخي في نصب محارق للشباب، ومن ثم دخولها في حالة اضمحلال بعد أزمات الأربعينيات وما بعد 2013، حيث شهد التنظيم عمليات تفكيك أودت به إلى الخروج من العملية السياسية. وبينما تم توظيفه ظاهرياً في بداية ثورة يوليو، فهو في الوقت الحالي يمر بحالة تفكيكٍ متراتبة، بحيث يمكن النظر إلى أدبيات المحنة، كحالة استلاب فكري وتنظيمي، فمن جهةٍ خرجت الجماعة من هذه الفترات أكثر انحسارا وتباعداً مع "مرجعيتها" الفكرية، كما شهدت انشقاقاتٍ ساهمت في تبعثر قدراتها، وانطوت على تشوّه معرفي، لعل هذه التشوهات تشير إلى وجود فجوة أو ثقب في القيادة يدرك مصلحة الجماعة على نحوٍ يتنافى مع مصلحة الأفراد، والمجتمع والدولة، حيث من المستبعد أن يكون تكرار الممارسات أحداثاً عفوية.
وفي الوقت الراهن، تواجه جماعة الإخوان المسلمين تحدّي تنامي إدراك الدولة مخاطر تجدّد التنظيم، فبينما تركت الدولة مساحة أمامها للقيام بدور داعم للسياسة الخارجية في حربي فلسطين وأفغانستان، كانت مشكلة الدولة مع وجود التنظيم، حيث صارت تدرك أن الاعتماد على المجموعات غير المتناسقة في الأزمات السياسية يشكل عبئًأ مؤجلاً، ولذلك تظهر تأكيدات متتالية على مرجعية ثورة يوليو للنظام الجمهوري. وبهذا المعنى، تبدو المرحلة الحالية أكثر اختلافاً عن الأزمات السابقة.
5DF040BC-1DB4-4A19-BAE0-BB5A6E4C1C83
خيري عمر

استاذ العلوم السياسية في جامعة صقريا، حصل على الدكتوراة والماجستير في العلوم السياسية من جامعة القاهرة، وعمل باحثاً في عدة مراكز بحثية. ونشر مقالات وبحوثاً عديدة عن السياسية في أفريقيا ومصر والشرق الأوسط .