أروى صالح.. "المبتسرون" في زمن التحرش والهزيمة

أروى صالح.. "المبتسرون" في زمن التحرش والهزيمة

14 يوليو 2020
(أروى صالح)
+ الخط -

كلّما تفجّر نقاش التحرش في المجتمع الثقافي المصري، أتذكّر الكاتبة أروى صالح (1951 - 1997)، وكتابها "المبتسرون: دفاتر واحدة من جيل الحركة الطلابية" (1996)، وفيه سردت حكاية جيلها الذي صنعته، أو بالأحرى دمّرته هزيمة عام 1967، والتي يُطلق عليها "النكسة".

كانت أروى أحد الموهوبين في جيلها الذي يّوصف بأنه جيل الحركة الطلابية في السبعينيات، و"المبتسرون" شهادة مهمّة على هذا الجيل وعلى الوسط الثقافي، واليسار، والنخبة، وأظن أنه لا زال صالحاً للاستدلال في الوقت الحالي، خصوصاّ أن هذا الجيل لا زال يحتل حيزاً كبيراً في ما يمكن أن نسميه "النخبة الثقافية" في مصر، سواء في الانتاج الأدبي، أو المواقف، أو الفضائح.

في "المبتسرون"، فصلٌ مهم بعنوان "المثقف عاشقاً"، وفي العنوان رمزية تشير إلى ما أسمته أروى صالح "النضال على السرير"، وهي تفضح فيه أساليب مثقفين كبار في الإيقاع بضحاياهن من خلال الوعود والكلام المعسول، ويؤكّد عدد من أصدقائها الذين اطلعوا على نسخة الكتاب الأولى قبل النشر، أنه كان يضمّ أسماء شخصيات معروفة، بعضهم رحلوا وآخرون كانوا أحياء وقتها، وسردُ لوقائع تعرّضت إليها أروى شخصياً، لكن تمّ حذفها قبل النشر حتى لا يتعرض الكتاب إلى المنع، أو لا يتمّ مهاجمته بدعوى أنه يشوّه الأشخاص.

وهي تقول في هذا الفصل الكاشف: "لا شيء يعدل تهافت البرجوازية على الجنس قدر عجزها عن الاستمتاع به"، وتقول: "إن المثقف في علاقته بالمرأة يسلك كبرجوازي كبير، أيّ كداعر، ويشعر ويفكِّر نحوها كبرجوازي صغير، أي كمحافظ مفرط في المحافظة".

قدّمت شهادة مهمة على اليسار والوسط الثقافي في مصر السبعينيات

أطلقت أروى صالح سهاماّ كثيرة على المثقفين، وانتقدتهم بصراحةِ أحد أفراد المعبد الذي قرّر أن يفضح ممارسات الجميع، فكتبت: "يكفي أن تكون كاتباً، أو أن يتمّ تعميدك بهذه الصفة، لتحظى بمكانة مرموقة تُصبح قيمة بذاتها تمارس إرهاباً على الآخرين الذين لا يحق لهم أن يحكموا على ما تكتب، بل عليهم أن يشتغلوا مفسرين له، ودعاة متحمسين ملزمين بالدفاع عنه، ذلك أن الكتابة تنتمي لصفوة الصفوة المبدعين الذين يُحددون الاتجاه، والعقول التي توجه المنفذين".

وكتب الشاعر المصري عبد المنعم رمضان في مقال عنها: "كانت الأقوال المتناثرة عن أروى تتضارب، وترسم لها أكثر من صورة، صورة نضالها، وصورة ثقافتها، وصورة أزواجها، ثم صورة كبيرة لخصوماتها وانتحاراتها الفاشلة؛ كانت قمراً على قمر عند البعض، وطيناً تحت طين عند آخرين، طهارة كاملة عند البعض، ودنساً كاملاً عند آخرين".

ألقت أروى بنفسها من الطابق العاشر في 7 حزيران/ يونيو 1997، لتموت منتحرة بعد عدّة محاولات فاشلة للانتحار، وقد كتبت بنفسها في كتابها الذي يجمع بين الفصحى والعامية المصرية: "أقدر أموت عشان قضية، ساعتها الموت بيبقى جزء لا يتجزأ من الحياة".

الصورة
غلاف الكتاب

اجتهد كثيرون لتفسير، أو تبرير أسباب انتحار صالح، والأرجح أن عدم قدرتها على مسايرة الواقع كان سبباً مباشراً لانهزامها في مواجهته، وقرارها بالمغادرة، ومن أصدق ما كتب في التفسير ما قالته هي نفسها: "رابطتي الأكثر حقيقية بالواقع، تبقى الإيمان الصلب بأجمل ما أنتجه البشر وهم يحاولون اكتشاف حلمهم وصنعه نقياً، ناصعاً، ومبرّأ من وساخة هؤلاء البشر أنفسهم. والذين كنت عاجزة في العلاقة المباشرة معهم عن تفسير لغزهم، فضلاً عن التعامل معهم، فاقدة أبسط روابط الثقة بهم، وكأن الواقع مصرّ على السخرية من إيماني الحصين في قلاعه الخاصة، الحقيقية جداً رغم كل شئ، والتي كنت أجري لأحتمي بأحضانها من قساوته كلما تعضني".

وكتبت ضمن ما يمكن اعتباره من الأسباب: "في ذلك العالم الوهميّ تنبت أرض لكل أنواع العجائب، وفيها يمكن أن يستحيل الأقزام فحولاً، وأن تولد المآسي الوضيعة من مهازل رخيصة، وأن تُستغل التضحيات النبيلة في إرضاء نزوات مريضة، وأن تنشأ صداقات حميمة، بل وعلاقات حب، بين أناس لا يجدون سبيلاً حقيقياً واحداً للتعرف على بعضهم البعض، وأن تكتسب أية خزعبلات لخيال مهووس قوة اليقين، وأن تصنع الأحداث الهامة صدفاً بعضها طريف، والبعض الآخر بذيء. كل ذلك كان ممكناً وأكثر ما دام يحدث في واقع مصطنع خارج كل واقع، ومن ثم فهو أكثر تشوهاً من أي واقع".

وقد وصفتها الكاتبة والناقدة المصرية أمينة النقاش، قائلة: "كانت أروى فتاة دقيقة الحجم، رقيقة الملامح، وسيمة الروح، ذات وجه طفولي وصوت خفيض، لكنه مفعم بالحماس الذي يبدو وكأنه ثقة بالنفس. تمتلك حيوية عقلية ساهمت ثقافتها المتنوعة وذكاؤها اللماح في شحذها وتجددها، وأمدتها بحضور آخاذ، مما جعلها دوماً نجمة السهرات بلا منازع".

ألقت بنفسها من الطابق العاشر في 7 حزيران/ يونيو 1997

لكن فساد الوسط الثقافي لم يكن السبب الوحيد لما وصلت إليه أروى، فللهزيمة أثر واضح في حياتها، وحياة كلّ جيلها، وربما لا زالت آثار الهزيمة ماثلة في العقل الثقافي الجمعي المصري والعربي حتى الآن.

تقول أروى في "المبتسرون": "عندما تحوّل زمن عبد الناصر إلى ماض ضاعت معالمه، تُهنا! ولم نجد ما نتوكأ عليه في المتاهة سوى الحنين. تعرّي وعينا التاريخي وهو يُواجه حاضراً لا يسير وفق نبؤاته الثورية، فأخذنا نولول مع النادبين على زمن الانهيار"، وتضيف: "اليوم أصبح مُبرر وجود القضية، أي قضية، هو تأكيد ذواتنا التي تمددت كثيراً في الفراغ"، وقد تنبأت بأنه "سينتهى الحال بجموع الناصريين واليساريين على حجر إسرائيل".

وفي محاولة لتحليل ما جرى، تسرد صالح: "الهزيمة رشقت الأسئلة بلا رحمة في قلب هذا الحلم، حينها بدونا كشعب يُحاول بعد طول نسيان أن يستعيد قدرته على التفكير، وتركه النظام الذي انكسرت هيبته الغشوم بالهزيمة، يلهو بهذه اللعبة الخطرة إلى حين، واندفع المثقفون، كل الفئات المتعلمة، يُعيدون فتح كل الملفات المحرّمة، وتجرّأ المبدعون على مناورة الرقيب، يقولون كلاماً خطيراً تماماً بقدر ما كانت تستقبله تربة متعطشة تبحث عن طرق جديدة تسلكها، عن إلهام لشعب لم يكن قد استولى عليه اليأس بعد. لهذا كان زمن الهزيمة هو الأكثر حيوية على كل مستوى يمكن تخيله في كل تاريخ نظام ثورة يوليو، حيوية لم يعرفها الشعب لا قبلها ولا بعد النصر، وفي هذا الزمن بالذات اندلعت الحركة الطلابية".

وتواصل: "إن المثقفين المهزومين يعشقون تحطيم الأصنام من كل نوع: ناجحون، مشهورون، مبدعون، يحبون ذلك إلى حد أن العجز عنه في حالة من الحالات يصيبهم بالإحباط، إن البرهنة على أن (الكل باطل) احتياج لا ينتهي عندهم".

ولم تتجاهل أروى رصد ما جرى لجيلها بعد الهزيمة، فقالت: "البحث عن الأمان- المادي والمعنوي أيضاً- انتهي بالبعض من البرجوازيين الصغار من المناضلين السابقين إلى نهايات لم يحلم بها مثقفو الستينيات، فالعمل في المقاولات مثلاً، بل والانتقال إلى أحزاب فاشستية سافرة لكنها تتضمن صعوداً سريعاً وقبولاً اجتماعياً، ناهيك عن المؤسسات الصحفية الخليجية التي امتصت كل من له ظل موهبة في عمل ثقافي، والذي كان أثره الوحيد الحقيقي هو تحويلهم إلى باعة ثقافة على المقاس البترولي".

كانت الصدمة ماثلة في كلّ ما كتبته صالح، ومنه: "لقد تهاوت الحدود التي كانت واضحة حتى الأمس بين الحقيقة والزور، والخصوم والحلفاء، وأيضاً بين الصواب والخطأ"، لكنها في الوقت ذاته لا تنكر الخطأ أو تدعي الذكاء، كيف ذلك "وقد استحق المغفلون أن يمتطيهم الأفاقون".

في أعقاب انكسار حلم تحقّق مطالب ثورة 25 يناير، تذكّرت ما كتبته أروى صالح في "المبتسرون" عن جيلها، جيل النكسة، لأنه يمكن أن ينطبق بشكل ما على جيلي أيضاً، أو على الغالبية فيه، ومنه: "خصوصية المأساة عند جيل خاض تجربة التمرد، أنه مهما كان مصير كل واحد من أبنائه، سواء سار فى سكة السلامة والإذعان لقوة الأمر الواقع، أو حتى أعلن الكفر بكل قيم التمرد القديم، أو سار في طريق الندامة، واعتزال الحياة، والمرض النفسي، فإنه شاء أم أبى لا يعود أبداً نفس الشخص الذي كان قبل أن تبتليه غواية التمرد، لقد مسه الحلم مرة، وستبقى تلاحقه دوماً ذكرى الخطيئة الجميلة، لحظة حرية، خفة لا تكاد تحتمل لفرط جمالها، تبقى مؤرقة كالضمير، وملهمة ككل لحظة مفعمة بالحياة".

وتضيف: "دهمتنا نحن أيضاً حجلة الانتقال من زمن إلى زمن. كنا نظنه زمننا، وأننا سنغيره، ولكن لم نتبين مواقع أقدامنا بما فيه الكفاية، فقد اتضح مرة أخرى أن زمن قادة الشعب الحقيقيين لم يحن بعد"، لكن دائماً "الأبطال لا يظهرون في غيبة الملاحم".

المساهمون