أردوغان يتجدد

13 اغسطس 2014

أردوغان يحي الحشد المحتفل بفوزه في الانتخابات (10 أغسطس/2014/الأناضول)

+ الخط -

على الرغم من كل ما يُقال في حديث المحاور الإقليمية، عن سياسة رجب طيب أردوغان؛ إلا أن فوزة من الدورة الأولى، في الانتخابات الرئاسية التركية؛ وقع برداً وسلاماً على العرب الذين يحسبون بعقولهم، وليس بكيدياتهم. ذلك لأن رجلاً لديه عاطفة ووجهة ــ وإن اختلطتا بطموح إقليمي ــ حيال العرب، أفضل من رجل علماني مُصّفى، ينتسب إلى ثقافة الاستعلاء عليهم وبغضائهم، ويحمل عاطفةً جياشة وإعجاباً شديداً بعدوهم القومي إسرائيل!

كما نحن ــ العرب ــ في كل سجال، نفتش عن النواقص والمثالب، في مواقف الآخرين الذين نختلف معهم في جزئيات، ونضخم هذه النواقص والمثالب، فنجعلها سمة غالبة، مثلما يفعل رسام الكاريكاتير عندما يضخّم الأنف أو البطن لمن لديه بعض البروز للأنف، أو بعض البدانة. فقد جعلنا موقف أردوغان حيال تطوراتٍ داخلية في العالم العربي، وموقفه الملتبس بحد ذاته، أو بالتأويل، حيال المتطرفين في سورية؛ جعلناهما كل سماته.

لكن الشعب التركي الذي قد يحاكم تجربة الرجل بمجملها، فيحكم لها أو عليها؛ لا يرى أردوغان من خلال هذه المواقف وحدها. فلحزب العدالة والتنمية تجربته المتنوعة الناجحة حتى الآن. فلم يكتسح كل انتخابات جرت منذ العام 2002 إلا بشفاعة ما حققه للأتراك من إنجازات (زيادة بنحو ثلاثة أضعاف لدخل الفرد، ومضاعفة 100% للدخل الوطني الإجمالي، وارتفاع لافت في مستوى حياة الفقراء). ولعل هذا ما جعل أردوغان يتجاوز بسهولة فضيحة الفساد التي انفجرت، وكان أبطالها بعض رجال الدولة وأبنائهم.

معارضو أردوغان ومبغضوه ارتبكوا وتنطعوا في أثناء الحملة الانتخابية. بعض الأتراك قالوا إنه من أصول جورجية، علماً بأنه نفسه الذي أشار إلى ذلك، كما يشير واحدنا إلى نفسه متحدراً من أصول قوقازية أو كردية. أما العرب الكارهون له، فإنهم ماكثون، أصلاً، في مربع الارتباك لم يبرحوه، لا سيما الذين أشادوا به قبل سنوات وتغنوا بـ "العثمانية الجديدة".

فهؤلاء لا يُسمع منهم قول، لأنهم إما أصحاب براميل متفجرة تُلقى على الآمنين من أبناء شعبهم، أو أصحاب جيوش ملفقة باسم أوطانها، تهرب عند أول تقطيبةٍ داعشية. أما التيار الوطني والقومي العربي الذي يتحفظ على سياسات أردوغان الممالئة لجماعة "الإخوان المسلمين"، فإن ناشطيه ومتفوهيه، لم ينتقدوا أنفسهم على الهمود والانكفاء وبؤس المسعى والفُرقة، ما جعل كفة "الجماعة" ترجح عند أردوغان، إن بسبب منهجه في معرفة كيمياء الاجتماع السياسي العربي، أو بسبب الميل الأيديولوجي الذي هو حق لكل صاحب ميل.

أما التركيز على علاقة تركيا الدولة بإسرائيل، فإنه لا يراعي إرث الجمهورية التركية منذ تأسيسها في 1923 ومنذ إنشاء إسرائيل في 1948. فتركيا الجمهورية، بموقعها وبصيغة تشكلها ودورها، ليست مخيماً كشفياً ينزع أوتاد خيامه، ويبدل المواقع في غضون أيام، وهي ليست بوليفيا، مع احترامنا، لكي تعلن العداء المطلق لإسرائيل، من دون أن تنتظر ارتدادات وحشرجات ودسائس في الإقليم وفي الداخل.

ففيها قوات مسلحة، ذات بنية معقدة، ولديها الجوار الأوروبي والمصالح فيه، ولديها حساسيات مع الجوار الروسي والإيراني، ولديها التنوع العرقي والمذهبي الضاغط. في خضم هذه المعادلات، ليس للدولة التي تحسب، إلا الأخذ بالقاعدة النحوية الفهلوية: "سكِّن تَسْلَم" ولو مؤقتاً، حيال بعض الملفات، مع الضبط بالشكل والإعراب العاجل حيال قضايا أخرى. في هذا الخضم أيضاً، تُرسم المواقف التي يختلف معها الآخرون، أو يتفقون.

الحديث الذي يتسلى به بعضنا، عن مؤامرات أردوغانية مع إسرائيل وخطط مرسومة تضطلع بها قَطَر معه، ليس إلا من نوع الخزعبلات التي تثرثر بها قارئات الكف، ولا تقنع أحداً. إنها محاولات لشيطنة أردوغان، وتعلية قطر إلى سوية القوى العظمى التي تقف وراء كل خطب.

هذا لا ينفي أن تركيا لا تمانع في استحواذ الحركة الإسلامية على جغرافيا سياسية، ولا ينفي كون أردوغان يخبىء في جعبته، وفي ملف الأمنيات البعيدة، مشروعاً إقليمياً للنهوض، يعتمد أيديولوجية إسلامية وسطية، تكون القوة الغالبة والمهيمنة فيه وعليه، هي تركيا الأكثر تطوراً وثقلاً، في السياسة والاقتصاد، وهي مركز الحكم الإسلامي الأخير، قبل أن يُطوى تماماً مع انتهاء الحرب العالمية الأولى.

في بعض المواقف العربية من أردوغان، لم يكن هناك استذكار ولا اهتمام، لبدائل الرجل وحزبه، من المنافسين ومن القوى السياسية. فمن الخفة والسطحية أن يتمنى واحدنا سقوطاً سياسياً لأردوغان، بسب تحفظنا على بعض خياراته وسياساته، إن كانت البدائل تجعل التحفظات خوازيق كاملة، تتعبنا وتريح إسرائيل التي تتمنى سقوط أردوغان أمام من هو أفضل منه بكثير لها. ذلك ناهيك عن أن الرجل ينجح بشفاعة مآثره، وهنا تكمن النقطة التي تحث الآخرين على الصمت والتأمل!