أدبٌ فرنسيّ غير استثنائي ونقد أدبيّ مزاجي

أدبٌ فرنسيّ غير استثنائي ونقد أدبيّ مزاجي

25 اغسطس 2015
لوحة للفنان المغربي محمد السالمي
+ الخط -
لم يعد الناقد الأدبي الكبير أنجليو رينالدي يُخيف الكُتّاب الفرنسيين، إذ هو مريض جدًا. فقد كان هذا الناقد وعضو الأكاديمية الفرنسية، والروائي أيضًا - فقد كادت إحدى رواياته أن تفوز بجائزة الغونكور لولا أنها مُنحت للمغربي الطاهر بن جلون سنة 1987 ـ يُثير الرعب في قلوب الكُتّاب الفرنسيين أثناء ظهور مؤلفاتهم.
وكان الكتّاب ينتظرون مقالاته الأسبوعية، التي لا تخشى في النقد لومة لائم، إن في صحيفة لوفيغارو أو في مجلتي ليكسبريس ولوبوان، بقلق شديد، وهو ما كان يثير في الوقت نفسه جذل القرّاء وعشّاق الأدب. وقلّما سلم كاتب فرنسي من قراءاته اللاذعة، التي كانت دليل عافية على قوّة الأدب الفرنسي وعالميته.

نقدٌ بين المحاباة والعدوانية

كانت قوّة أسلوب رينالدي وجرأته في التناول، جعلته يُطيح بأبرز كتّاب القرن العشرين في فرنسا والعالم. ومن بين ضحاياه الشهيرين؛ لويس أراغون وأندريه جيد وجان جونيه ومارغريت دوراس وآلان روب غرييه وفيليب روث وميشيل تورنييه وفيليب دجيان وكريستين أنغو وكلود سيمون وميشيل ويلبيك وآخرين.
وباعتراف معاصريه كان أنجيلو رينالدي يمارس نوعًا من النقد الأنيق يقترب من "المسايفة" لو جاز التعبير. وكان هذا الأخير يُذكّر بأصوله الكورسيكية حيث "يمكن للموت، دائمًا، أن ينبجس من خلف جدار من الأحجار اليابسة"، على حدّ تعبير ستاندال. وجاءت نهايته حين وجد نفسه وحيدًا، محاطًا بجثث ضحاياه. إلا أن هذه الجثث كانت لا تزال قادرة على الكلام وعلى حصار الناقد.
تلخّص جوزيان سافينيو، المسؤولة الأدبية السابقة في صحيفة لوموند، والمقرّبة من فيليب سوليرس، خطيئة أنجيلو رونالدي في أنه لم يستطع، أو يشأ، أن يتحدّث عن أحد الكتّاب بخير.
لكن جوزيان سافينيو، حين كانت لها اليد الطولى في صحيفة لوموند، دافعت عن نوع من الكُتّاب وحاصرت الأنواع الأخرى، فقد دافعت، بإيعاز من فيليب سوليرس، عن ميشيل ويلبيك وعن الأميركي فيليب روث "مع فيليب روث" وناصبت الكثير العداء.
وقد ظهر نقّاد كثيرون يمارسون النقد الأدبي في صحف ومجلات فرنسية بنوع من العنف، نذكر منهم باتريك بيسون، وهو روائي جيد، أيضًا، والذي يطلق النار على كل من يتحرّك. ومن النادر جدًا أن تعثر على كاتب أو كاتبة يحظى في نظره بالاحترام ويستحق القراءة. ولا يُخفي باتريك بيسون، في مقالاته السابقة في صحيفة لومانيتيه ومجلة لوبوان، روحه السلافية (وقد كان من أنصار ميلوزوفيتش في صربيا، مع ريجيس دوبريه، حين كان برنار هنري ليفي يزور عزت بيغوفيتش في ساراييفو).

اقرأ أيضاً: الموسم الأدبي الفرنسي، لا مفاجأة؟

استفزازٌ وعدوانية

ولهذا النوع من النقد الأدبي، الذي لا يخلو من روح الاستفزاز ونوع من العدوانية، الذي يبدو فيه، أحيانًا، كثيرٌ من المبالغة والتصنّع، ممارسون كثيرون، لعلَّ من أهمهم، حاليّا، الأكاديمي بيير جورد Pierre Jourde والصحافي والإعلامي إيريك نولو Eric Naulleau، اللذان أصدرا كتابًا مشتركًا بعنوان: "جورد ونولو" (الطبعة الأولى صدرت سنة 2004، والثانية سنة 2008 وصدرت هذه السنة الطبعة الثالثة المنقحة والمزيدة) لمقاربَة أدباء القرن الواحد والعشرين ونقد أعمالهم. وهو كتابٌ يرصد، حسب تصور المؤلِّفَين، الممثلين الشهيرين للمجد الزائف للأدب وأيضًا العباقرةَ الذين توّجوا أنفسَهُم، وكبار المؤلفين الميديويين ومُدلَّلي النقد الرسمي، وفرسان التضخم والفخفخة وخدّام العَدم وكُتّاب الرداءة وكُتّاب التفاهة الذين ترتبط مؤلفاتهم بمديري التسويق والعلاقات العامّة، أكثر ممّا ترتبط بموهبة أقلامهم، وأيضًا متمرّدي الصالونات. وكانت النتيجة مثيرة من حيث عدد الضحايا؛ إذ إن القارئ يعثُرُ على رموز للأدب الفرنسي الحالي مثل أوليفيي أدام وفلوريان زيلر وكريستين أنغو وباتريك بيسون ومادلين شابسال وفيليب لابرو وبرنار ـ هنري ليفي ودومينيك دو فيلبان وفرانسوا بيغودو وآنّا كافالدا ومارك ليفي. ومن الصعوبة أن نعثر على كاتب فرنسي معاصر يستحق في نظر الكاتبين شيئًا من الاعتبار والاعتراف.
ولا شكّ في أن الرغبة في الصدام وإثارة الجدل، وأيضًا إدراك الكاتبين الناقدين لإقبال القارئ على هذا النوع من النقد الجارح، كانا دافعًا كبيرًا لظهور الطبعة الثالثة. وليس غريبًا أن يبدأ إيريك نولو ظهوره الأدبي من خلال التهجّم على ميشيل ويلبيك، الذي كانت معظم الصفحات الأدبية الفرنسية تحتفل به وتنتظر، بفارغ الصبر، فوزه بجائزة الغونكور المرموقة.
من الصحيح أن الفكرة الرئيسة في الكتاب، تكمن في الخروج من جو التواطؤ العام الذي يَسِم المشهد الأدبي الفرنسي، وخاصة الباريسي منه، حيث يُحاول نقّاد الأدب في كلّ صحيفة أو مجلة أدبية فرنسية، أو أي منبر إعلامي ثقافي، العمل على مساعدة هذا الكاتب أو ذاك، ومن خلاله مساعدة دار النشر هذه أو تلك، في الفوز بإحدى الجوائز الأدبية الفرنسية، الأمر الذي يعني، في نهاية المطاف، تحقيق أرباح تجارية ضرورية و"تسليع" الكتاب.

قليل من التفاؤل

ولكن الأمر ليس، دائمًا، بمثل هذه السوداوية، حين نقرأ الكتّاب السابقين، إذ تعايَشوا مع كُتّاب ونقّاد آخرين، كانت لديهم فكرة أخرى عن الأدب؛ وهي فكرة اكتشاف المواهب الأدبية، وكان في مقدّمهم موريس نادو، صاحب دار النشر التي تحمل اسمه، ومدير المجلة الثقافية الشهيرة لاماغازين ليترير. فقد اكتشف هذا الناقد والقارئ النهم، الذي لم يعرف الكلل واليأس يومًا، (الذي غادرنا أخيرًا عن عمر يناهز 102 سنة)، كثيرًا من الكتّاب، من بينهم ميشيل ويلبيك نفسه، وآزَر كثيرًا من دور النشر الصغرى التي كانت "تقاوم"، إنْ صحّ التعبير، كي تكون مرئية و"تظهر" وسط الخنق والحصار اللذين تمارسهما دور النشر الكبرى.
وقد اختلفت الأمور اليوم على ما يبدو، إذ إن النقد الأدبي الأكاديمي يعاني كما هو معروف من عزلة كبيرة، ولا يخرج، إلاّ في النادر، إلى العلن، بسبب صعوبة قراءته، نظرًا إلى اتجاهه البحثي وكثرة المصطلحات فيه. أمّا النقد الآخر، أي ذاك الذي يمارسه كثير من النقّاد الأدبيين في الصحافة الورقية والإلكترونية فمختلف، إذ إن الكثير منهم يعمل "مستشارًا أدبيًا" لدى دور النشر الكبرى، وليس الأمر سرًا. وربّما كان ذلك مؤثّرًا في المشهد الأدبي الفرنسي؛ إذ إنّ الجوائز الأدبية، عمومًا، هي حلبة صراع بين الدور الكبرى، أكثر ممّا هي صراع بين مؤلَّفات ونصوص إبداعية، الأمر الذي يتطلّب من هؤلاء الكُتّاب والنُقّاد الدفاعَ المستميت عن مصالح دور النشر الكبرى هذه.
ورغم قتامة المشهد، إلا أنه يمكن مع ذلك العثور على نقّاد أدبيين مخلصين موضوعيين، يبحثون عن الأدب الجيد، حتى ولو نُشِر في دور نشر صغيرة لا ينتبه إليها أحد. ويمكن أن نذكر مجموعة من ممثلي هذا النوع من النقّاد؛ بيير أسولين Pierre Assouline وجان ـ بيير ريشارد Jean-Pierre Richard وجان ـ كلود ماثيو Jean-Claude Mathieu والسويسري جان ستاروبينسكي Jean Starobinski وروني فاليت René Fallet وأندريه رولين André Rollin.
وإذا كان بيير أسولين ينشر مقالاته التي يكتشف فيها الجديد والممتع في صحيفة لوموند ومجلتي لير وماغازين ليترير الأدبيتين، فإن روني فاليت وأندري رولين ينشران نصوصهما الجيدة في صحيفة لوكنار أونشينيه الأسبوعية الساخرة،
الأمر الذي يدل على ما هو جيد وطريف في الأدب يمكن العثور عليه في منابر لا نتصورها أو تخطر في البال.

يعيش أندري رينالدي، الذي تجاوز، قبل شهر تقريبًا، سن الخامسة والسبعين، في عزلة شبه كاملة، مع قطيّه، ولكنه ليس بتلك العدوانية التي حاول الكثيرون من "ضحاياه" أن يصفوه بها، وعلى رأسهم دجيان وجان إيديرن هاليي، إذ لم يُخفِ، أبدًا، عشقه لأدب فرديناند سيلين، رغم فظاعة مواقفه السياسية. وسيلين، هو أحد أهم الروائيين الفرنسيين في القرن العشرين إلى جانب مارسيل بروست، وقد بدأ الجميع في فرنسا يُطالب بإعادة الاعتبار لسيلين. اعتبار قد يسمح، قريبًا، بنشر نصوصه حتى السياسية منها والهجائية. ولعلّ في هذا ما يؤكد "رؤيوية" رينالدي، في ظلّ مناخ أدبي وإبداعي فرنسي غير استثنائي، رغم فوز الفرنسي باتريك موديانو بجائزة نوبل للآداب هذه السنة.

المساهمون