أتاوة على الزواج في زمن العنوسة

أتاوة على الزواج في زمن العنوسة

13 يوليو 2014

تونسيون في مقاهي العاصمة (2011/فرانس برس)

+ الخط -


كان التونسيون على موعد، في الأسبوع الماضي، مع الإعلان عن مشروع الميزانية التكميلية لسنة 2014، والتي احتوت على سلسلة إجراءات مقترحة، لتفادي ثغرات مهمة في الميزانية التي أعدتها حكومة الترويكا قبل أن تغادر الحكم. وسيعرض مشروع القانون على المجلس التأسيسي في الأيام المقبلة، سبقته، لأكثر من ثلاثة أشهر، حملات سياسية، لا تخلو من المزايدة التي تذهب إلى حد الإسفاف الأيديولوجي، على غرار البديل الذي قدمته الجبهة الشعبية، والذي يبدو أنه أعد سهواً لميزانية ألبانيا في بداية الستينيات.

ساهم في هذه البدائل المعروضة في سوقٍ منفلتةٍ فاقدةٍ أدنى القواعد "خبراء" و "مختصو" أحزاب المعارضة والمجتمع المدني، وعديدون من هؤلاء لم يعرفهم المجتمع التونسي، ولا نخبه، في المعارك الديموقراطية طوال أكثر من عشريتين مع نظام زين العابدين بن علي. أتاحت الثورة لعديدين من محاسبي اللوبيات الاقتصادية والشركات أن يصبحوا خبراء، وغريب أن صناعة الخبراء هذه غدت في تونس صناعةً إعلامية رابحة، تحتكرها قناتان تلفزيونيتان تقريباً. يفترض، كما في دول العالم التي تحترم نفسها أن تكون الجامعة ومراكز البحث والنشر وورشات العمل وقيادة المشاريع هي التي تنتج نخب المختصين والخبراء، إلا في تونس، فإن مجرد ترددك مرات قليلة على تلك القنوات تمنحك الحق في اكتساب صفة الخبير.

النتيجة أن هذه الصفة افتقدت أي مصداقية، وأصبح حديث الخبراء لغواً، يعجز عن جلب انتباه التونسيين الذين غرموا بالثرثرة، في هذه الأيام، فالثرثرة تظل، لأسباب عديدة، أفضل بكثير من الهذيان. ويغير خبراؤنا من اختصاصاتهم وخبراتهم، بمقتضى ارتفاع أسهم القضية المطروحة. ويشير جامعيون عديدون إلى حالةٍ، تطور فيها أحد الخبراء، من "خبير" في المعارك العسكرية في الصحراء، إبّان الثورة الليبية، فخبير في الانتقال الديموقراطي في المجتمعات القبلية، إلى خبير في الجماعات الإسلامية في الصحراء، لينتهي إلى خبير في الأمن الشامل، علماً أنه لم ينجز عملاً واحداً في مجال خبراته المتعددة، وإنما استمد مشروعيته التاريخية من بحث جامعيٍ، أعد بشأن معركة عسكرية شهيرة في الصحراء التونسية خلال الخمسينيات.

في ساحةٍ تفيض فيها آراءُ هؤلاء الخبراء، وبعدما يناهز أربعة أشهر في تفكيرٍ ثاقبٍ لحكومة التكنوقراط، غير المعنية بالتجاذبات السياسية، والزاهدة، أَصلاً، في الخوض في الشأن السياسي إلى حد الورع، والمتفرغ للقضايا الكبرى، ما يجعل بعضهم يرشحها حكومةً أبديةً لتونس، في ظل العزوف عن التسجيل الانتخابي، أعدت لنا هذه الحكومة هذا المشروع. وبعد

دراساتٍ عميقة، انتهى الذكاء الألمعي لحكومة التكنوقراط هذه إلى حزمةٍ من الاقتراحات، للخروج من أزمةٍ هيكليةٍ، تدق عظام الناس في شهر رمضان بالذات، تدور عموماً حول تفكيك متسارعٍ وعنيفٍ لمنظومة الدعم العمومي، وهي إجراءاتٌ تترجم عملياً من خلال الرفع في أسعار عدة مواد (غذائية ومحروقات...)، فضلاً عن فرض جملة من الضرائب. لكن ما أثار عاصفةً من السخرية والنقد اللاذع على الشبكات الاجتماعية للتواصل هو فرض ضريبة على الزواج، في شكل طابع جبائي، يقدر بحوالي 15 دولاراً في بلادٍ، يشهد فيه "السوق الزواجي"، على حد قول عالم الاجتماع الفرنسي، بيار بورديو،  ركوداً وبواراً حادين، تترجمه نسب العنوسة التي يقدرها بعضهم في حدود 60 %، وهي من ثلاث أعلى نسب في العالم العربي، ناهيك عن ارتفاع نسب الطلاق، أيضاً، والتمزق العائلي، وظهور أشكال جديدة من المعاشرة الحرة، تحت مسميات عديدة، يستند بعضها إلى مبرراتٍ دينيةٍ، على غرار الزواج العرفي، ويستند بعضها الآخر إلى مخزون إفتائي، لتحليل سلوكاتٍ، هي، في الأصل، معيبة، ما يستدعي قيام سوسيولوجيا إفتاء قريباً، لفهم دواعي تنامي السلوك الفصامي المنتشر لدى فئات اجتماعية واسعة في تونس.

تقدمُ تونس في العشرية المقبلة تحديداً على انتقال ديموغرافي حاد، لم تشهده من قبل، وهو التهرم السكاني الأول الذي سيغير من تركيبة الهرم السكاني، ما يجعل قاعدة الهرم هذا نحيلةً في مقابل تنامي عدد الشيوخ في قمته، وهي النتيجة التي تعود إلى سياسات مناهضة الولادات التي انتهجتها البلاد منذ بداية السبعينيات، والمعروفة بسياسة تحديد النسل، حيث كانت النساء، آنذاك، يتعرضن إلى ترغيب، وأحيانا ترهيب، خصوصاً بين الأوساط الريفية الفقيرة والأمية، لفرض إجراء عمليات جراحية آنذاك، لوضع حد لإمكانية الإنجاب بشكل نهائي، في مقابل بعض لترات الحليب المعلب واللبن.

تقترح الحكومة هذه الضريبة في ظرفٍ، تنتشر فيه العنوسة لدى أوساط عديدة، ويرى بعضهم إنها إحدى تمظهرات الحداثة الاجتماعية التي لا مفر منها، وهي بمثابة كلفة تدفع وجوباً، في واقعٍ أصبح الزواج، إلى حد كبير، خياراً فردياً حراً، لا ينم عن استمرارية الأعراف والسنن الاجتماعية، فالعنوسة ناجمة، من وجهة النظر هذه، عن نسب التمدرس المرتفعة، وتمطط سنوات الدراسة، إلى جانب أشكال المعاشرة غير الزواجية إلخ...

من يفلت من غول العنوسة، لأسباب أو لأخرى، يقع فريسة ارتفاع التكاليف الزواج والحياة الزوجية، ما حث فئات عديدة على تطوير استراتيجيات زواجية وأسرية، تضمن رعاية العائلات لأبنائها، من المتزوجين، فتنتشر، في الأوساط الشعبية، ظاهرة تقاسم الأبناء المتزوجين عائلاتهم الفضاء المنزلي نفسه، فضلاً عن أشكال الرعاية الأخرى، كحضانة الأبناء والأكل، وغيرها من "الخدمات العائلية المجانية". يبتدع الشباب وعائلاتهم من حديثي الزواج حيلاً اجتماعية، تذكرنا بجدتنا مريم الصناع التي أتقن الجاحظ وصفها.

يأتي هذا المقترح مقروناً بإجراءات تستهدف الطبقات الشعبية والوسطى، على غرار فرض ضرائب على القضايا المرفوعة في المحاكم، ورفع أسعار السجائر والكحول، وهي إجراءات بكل المقاييس موجعة، لكنها تظل من قبيل لعق الملح، لأنها لن تكون ذات مردودية تذكر، فضلا عن تواطئها الضمني مع بارونات التهريب، وأصحاب رؤوس الأموال، حين تغض عنهم الطرف في مثل هذا الظرف، ولا تشملهم بأي إجراء يذكر.

في هذا المناخ، كان بعضهم ينتظر من الحكومات المتعاقبة أن تتخذ إجراءاتٍ لحل هذه المعضلة، تيسيرا للزواج لفئات عديدة، خصوصاً إذا كان هذا خيارها، لكن الحكومة أجابتهم بغير تلك الأماني، وفرضت عليهم الضريبة المذكورة. الإجابة السريعة كانت أكواما من الملح والنوادر والطرف، أوقفتها المجازر الصهيونية المرتكبة حالياً وللمرّة الألف في غزة.

7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.