أبو ساري يرقص مع سارة

أبو ساري يرقص مع سارة

23 ابريل 2020
+ الخط -
مع اقتراب شهر رمضان، أخذتْ عواطفُ المشاركين في سهرات الإمتاع والمؤانسة تتأجج شوقاً إلى إدلب، سيما أن قدومه في هذه السنة يتزامن مع فصل الربيع الطلق (الذي أتانا يختال ضاحكاً- كما قال البحتري).. وللعلم فإن ربيع إدلب وأريافها جميل على نحو قد يعجز البحتري نفسه عن وصفه.

بدأ الأصدقاء المحجورون في بيوتهم يشعرون بالحنين إلى بلداتهم وقراهم التي أُخرجوا منها رغماً عنهم، بسبب القصف اللئيم من قبل طائرات نظام الأسد وبوعلي بوتين، أو بسبب عدوان "حزب الله" والإيرانيين حاملي المشروع التوسعي المتخلف عليهم، أو هرباً من سلطات الأمر الواقع التي يتسلح قادتُها بمفاهيم استبدادية متخلفة.

قلت إن هذا الحنين ذكرني، أنا صاحب هذه المدونة، بضرورة تقديم تدوينات تحمل عنوان "سمر رمضاني" كما هي العادة في شهر رمضان، وسوف أخصصها هذه السنة للقصص والحكايات الإدلبية..

وبسبب سيطرة مرض كورونا على ساحة شعور جميع البشر في الأيام الحالية، يمكننا أن نتكلم في بعض سهراتنا القادمة على "طقوس المرض" في إدلب.

الأستاذ كمال أعجب بمصطلح "طقوس المرض" وقال:
- كتير عجبني هالمصطلح. بالفعل المرض عندنا في إدلب كان إله طقوس. مثل طقوس الأعراس، وطقوس الروحة ع الحَمَّام، والروحة ع الحجاز، والطلعة ع البراري منشان حواش الزيتون.

قال أبو محمد: حكينا كتير في السهرات السابقة عن الأعراس.. إذا ما عندكم مانع خلونا نحكي في سهرة اليوم عن طقوس الروحة ع الحمام.

قالت السيدة حنان زوجة كمال: كيف هيك؟ مو على أساس بدكم تحكوا عن طقوس المرض؟

قال كمال: روقي حبيبتي. نحن بسهراتنا منمشي على مبدأ (الحديث اللي بيجر بعضه). تفضل عمي أبو محمد. احكي لنا عن طقوس الحمام.


قال أبو محمد: كان كل واحد منا عنده "بقجة". كنا نحط جوات البقجة صابونة غار، وبيلون بورد، وغيارات داخلية، وجوارب جديدة، وكنا ناخد معنا أولادنا الصبيان، وكل واحد منهم يشيل بقجته اللي أمه تحط له فيها مستلزماته.. في الحمام، كنا أحياناً نجيب أكل، لحوم مشوية غالباً، أو جبسة (بطيخة حمرا)، أو برتقان، لأنه الواحد بعدما يتحمم بيشعر بالجوع وبالعطش، لأن الجسم بتتفتح مساماته وبيتنشط. في أيام الشباب كنا نستأجر الحمام من بابها. وهاي الشغلة كنا نساويها مرة كل شهر تقريباً. كنا شلة أصدقاء حوالي خمسطعش رجل، ناخد بقجاتنا ونروح ع الحمام، وبعدما نستحم ونطلع للجناح البراني كان الأستاذ نذير "أبو ساري" يحط العود بحضنه ويبلش يعزف ويغني هوي وأبو علي رحمة الله عليه، وكان أبو محمود يضرب ع الدربكّة، ويختاروا الأغاني اللي بترقّص، ونقوم كلياتنا نحن الموجودين في القسم البراني، يعني اللي تحمموا وانتهوا، ونبلش رقص ودبكة، والشباب اللي لساتهم جوا لما يسمعوا صوت الغناء والرقص كانوا يختصروا الحمام ويطلعوا حتى يشاركوا معنا.. أنا بصراحة ما كنت إحضر أعراس عادية، لكن هالعرس المحلي اللي كنا نساويه في الحمام ما في أحلى منه.

قلت: بما أنه الانتقال من حديث لحديث مسموح فيه، بدي إسألكم سؤال. في حدا منكم بيعرف من وين أجاه للأستاذ نذير لقب (أبو ساري)؟

قالت أم زاهر: أنا بعرف الأستاذ نذير لقبه أبو عمر. يعني فعلاً هادا سؤال مهم: من وين أجاه لقب أبو ساري؟

قال أبو ابراهيم: صحيح والله. مع إنه إسم ابنه الكبير عمر، وما في بكل أسرته ولد إسمه ساري.

قلت: أنا بعرف القصة. وهي قصة طريفة. يا ست أم زاهر متلما بتعرفي المجتمع تبعنا كان فيه بهديكه الأيام فصل حاد بين الجنسين، قصدي بين الرجال والنساء. كان صعب كتير إنه تنعقد سهرة متل سهرتنا هاي اللي فيها حضراتكن إنتي والست حنان وأم ماهر وأم الجود وأم مرداس. الأستاذ نذير لما كان أعزب كنا ننادي له "أبو عمر" لأن إسم والده عمر. ولما تزوج سمى أول ولد عمر كالعادة. وذات مرة صارت معه قصة غريبة من نوعها.

قال أبو جهاد: هات سمعنا.

قلت: كان في منطقة بين جسر الشغور وسلقين إسمها "العلاني"، المنطقة مشجرة ومرتفعة، والهواء فيها عليل، يعني مصيف. وكان الطقس ربيع، متل هاي الإيام، والجمال عم يسيل من المنحدرات كما لو أنه سيول. أثناء وجود أبو عمر في المقصف هناك مع أصدقاؤه، وبعدما تغدوا وانبسطوا، جابوا العود وصار يعزف. وأثناء العزف شاف صبية جميلة جداً جداً جداً، قاعدة مع أبوها وأمها وإخوتها وأخواتها البنات، ومن بين كل هالمجموعة خفق قلب أبو عمر لهاي البنت، وعلى الأغلب إنه هيي نظرت له نظرة إعجاب، فتخربط كيانه، وارتفعت معنوياته بشكل كبير، وصار يعزف أصعب المعزوفات وأجمل الأغاني، وبلشوا الناس ينسجموا معه ويصفقوا له، وهوي صار يزداد تألق، إلى أن التقط من البنت إشارة فهم من هالإشارة إنها حابة ترقص، فطلع فوراً بأغنية راقصة، وتقدمت البنت من وسط المطعم، وصارت ترقص رقصة غريبة، ما بتشبه أي رقصة من الرقصات المألوفة، هون أبو عمر نسي الزمان والمكان، وشال العود ووقف واستمر عم يعزف وينتقل من معزوفة لأخرى، والصبية صارت ترقص معه، بتناغم مدهش، وهيك لوقت ما سمعوا الموجودين زمور سيارة من بره..

فاقتربت منه الصبية وقالت له:
- يسلمو إيديك يا أستاذ ويسلم ذوقك وفنك.. أنا مضطرة إمشي.. حبيت أسلم عليك وأعرفك على نفسي. إسمي سارة. وإنته؟

قال لها: سارة؟ تشرفنا سارة. أنا أبو.. أبو.. أبو ساري!

قالت له: باي.
وغادرت المكان.

ومن هداكا التاريخ صار الأستاذ نذير يعرف في السهرات واللقاءات الفنية بإسم "أبو ساري". وكانت حسرة في قلبه إنه ما شاف سارة بعد هديكه السهرة أبداً. وكلما التقى بواحد من أصدقاؤه الخلص كان يحكي له بالتفصيل الممل عن وقائع تلك السهرة التي لا تنسى.

ورمضان كريم ع الجميع.

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...