أبو دعاس والحركة التصحيحية

أبو دعاس والحركة التصحيحية

01 أكتوبر 2018
+ الخط -
كان أبو الجود يتحمل غلاظة شريكه "أبو دعاس" لأسباب عديدة، منها أن أبا دعاس ذو بنية جسدية قوية، أو كما يصفه أبو الجود (مُطَعَّم على بغل)، يحمل "السيبا" الخشبية الثقيلة ذات الشكل الهرمي من المستودع إلى مكان الشغل على ظهره، وخلال عبوره في الأزقة تصطدم حوافها بالعابرين، فإذا احتجوا يضحك ويقول لهم:
- بسيطة معلم، هاي زكزكة وكركرة..

ويعود إلى المستودع مسرعاً، ويحمل عدة الدهان، ويضعها في الدراجة ذات العجلات الثلاث (الطريزينة) ويشحنها إلى مكان العمل ويُنزلها، وفي النهاية يأتي أبو الجود ليجد الورشة وقد أصبحت جاهزة، وكأنه معلم المعلمين، ويمسك بفرشاة الدهان ويباشر الشغل..

أبو دعاس لا يقوم بهذه الأعمال الإضافية بموجب اتفاق مسبق، أو لقاء حصة إضافية من الأرباح، وإنما ينفذها تبرعاً لأجل أن يبقى بالقرب من أبي الجود، يستمتع بقصصه وحكايات الممتعة، وقد اعتاد أن يضحك حتى يستلقي على قفاه عندما يلقي أبو الجود نكتة موفقة.


ذات مرة تعاقد "أبو الجود" مع البلدية على طَلي حائط كبير في ساحة البلدة الرئيسية بالدهان الأزرق تمهيداً لإقامة احتفالية بذكرى الحركة التصحيحية حيث سيـأتي خطباء أعضاء في الجبهة الوطنية التقدمية من مركز المحافظة ليشيدوا بالقيادة التاريخية لحافظ الأسد، ويحمدوا الله الذي هيأ لهذه للأمة العربية قائداً بهذا الحجم، وسيستخدم بعضُهم أجهزة إسقاط لعرض صور لبطولات جيش حافظ الأسد في حرب تشرين التي خسرنا فيها بعض الأراضي ولكننا ربحنا كرامتنا، وحررنا إرادتنا، فما عدنا ننظر إلى الجيش الإسرائيلي على أنه جيش لا يُقْهَر!

اشتغل أبو الجود وأبو دعاس حتى منتصف النهار، وبين الحين والآخر كان أبو دعاس (يتحركش) بأبي الجود، ويستفزه ليروي له حكاية أو طرفة.. ولكن أبا الجود كان مضطرباً..

وتوقف فجأة عن الشغل في حدود الساعة الواحدة ظهراً وقال له:
- يا شريكي أنا تعبت كتير و(هَلَّشْت). جعت وعطشت. ولعلمك أنا مثل الكديش الذي يقدم له مالكُه قليلاً من الشعير قبل البدء بالسباق، فيركض بسرعة في البداية، لشعوره بالشبع، حتى يصل إلى منتصف الميدان، ووقتها ينتهي مفعول الشعير فيتعب و(يهلش) وتسبقه الخيول الأخرى.

ضحك أبو دعاس. تابع أبو الجود يقول:
- واكتشفت الآن أن الشغل عند الدوائر الحكومية بشع وحقير. لما نشتغل عند مواطن عادي يأتينا بالشاي والقهوة والماء البارد، وفي وقت الغداء يأتينا بالطعام.. فنشتغل بهمة ونشاط ولا نُهَلِّش.
قال أبو دعاس: والحل؟
قال أبو الجود: الحل أن نترك كل شي هون، ونروح على شي مطعم، ويأخذ كل منا صندويشة فلافل نصف قطرها ثلاثة إنش، ونأكل.
ضحك أبو دعاس ضحكة جعلت الجار الحاج محمود يخرج إلى الشرفة ويقول:
- خير شباب؟ ضحكونا معكم.
استغل أبو الجود الفرصة وقال للحاج محمود:
- هذا العامل (مشيراً إلى أبي دعاس) سيموت بعد قليل.. وإذا مات ستكون خطيته في رقبتك يا حاج محمود!
دهش الحاج محمود وقال: برقبتي أنا؟ ليش؟
قال: لأن هذا الإنسان المسكين سيموت من الجوع بينما بيتك الكريم مليء بالأطعمة. أيجوز هذا الشيء يا حاج؟!

دقت النخوة العروبية أبا محمود وقال:
- باطل! ليخسأ كلُّ من يقول بأن حدا مات من الجوع وهو في جيرة الحاج محمود. تفضلوا. خمس دقائق ويوضع الطعام على السفرة.
في هذه اللحظة التاريخية، لم يتمالك أبو دعاس نفسه. راح يقبل أبا الجود ويقول له:
- أنت رجل عظيم. يا إلهي ما أجملك.

دلالات

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...