آلان كلارك.. سينما مُعرّفة بالمشي والألم

آلان كلارك.. سينما مُعرّفة بالمشي والألم

24 يوليو 2017
(كلارك وغاري أولدمان أثناء تصوير "ذا فيرم")
+ الخط -

سبعة وعشرون عامًا مرّت، اليوم، على رحيل الكاتب والمخرج البريطاني آلان كلارك (1935-1990) الذي عمل في السينما والمسرح والتلفزيون لمدة لا تتجاوز الثلاث وعشرين سنة لكنه أنجز خلالها 60 عملًا مختلفًا، قلة منها فقط كانت أفلام طويلة، جعلته واحدًا من أهم المخرجين الذين عرفتهم بريطانيا بدءًا من النصف الثاني للقرن العشرين وحتى اليوم، إلى جانب كل من ستيفن فريرز، ومايك لي، وكين لوش، وغيرهم من أبناء جيله. ألهمت أعمال كلارك عددًا كبيرًا من المخرجين السينمائيين بعده، كالبريطانيين بول جرينجراس وبين ويتلي، والأميركي هارموني كورين؛ الذين حاكوا في أفلامهم أسلوب كلارك السينمائي في التصوير والمونتاج، وطريقته في روي أحداث القصة عبر اللقطات.

ينتمي كلارك لعائلة من الطبقة العاملة سكنت مدينة والاسي البريطانية، لكن ذكاءه الشديد مكّنه من الحصول على منحة دراسية لمدرسة النحو في إنكلترا. وفي عام 1954، استُدعي كلارك لأداء الخدمة الوطنية التي ما لبث أن انتهى منها حتى غادر إلى كندا، وبعد أن أصيب فيها أثناء ممارسة عمله في التعدين، قرر كلارك استكمال دراسته في الجامعة، فاختار دراسة فنون الإذاعة والتلفزيون. بعد تخرجه من جامعة تورنتو، عاد كلارك إلى بريطانيا حيث قام بعدد من التجارب المسرحيّة، قبل أن يبدأ عمله التلفزيوني، أوائل عام 1970، مع شركة BBC في سلسلتي “Play for Today” و“The Wensday Play” التلفزيونيتين. إضافة إلى عمله السينمائي اللاحق عبر ثلاثية (1979)Scum . (1982) Made in Britain. و (1988) The Firm.


من المسرح إلى التلفزيون
أخرج كلارك للمسرح نصوص كل من شكسبير، وجان بول سارتر، ويوجين أونيل، وجان جينيه. وكانت لتجربته المسرحيّة هذه فضل كبير على أعماله اللاحقة التي صاغها متأثرًا بنظريات جمالية مسرحية. أُعجب المخرج بمسرح العبث، وسعى إلى الاستخدام المتقشّف للديكور والأغراض، والأدوات التقنية أيضًا، كفيلمه القصير المصوّر بـ 16 ملم (1989) Elephantالذي رآه البعض فيلمًا حقيقيًا أكثر من اللازم، ما أدّى لافتقاره الطابع الفني الجمالي. تأثر كلارك أيضًا بالمسرحي الألماني برتولد بريخت، فسعى إلى تحقيق عنصر المباعدة (The distancing effect)  عبر أداء ممثليه، ورسمِ الأقنعة على وجوههم، كما أخرج كلارك أفلامًا غنائية على غرار أوبرات بريخت الشعبية، كفيلم (1985) Billy the Kid and the Green Baize Vampire.

كان أسلوبه في إدارة الممثلين، خير دليل على عمق تجربته المسرحية. لقد أحب كلارك الممثلين واعتبرهم الوسيط الوحيد بينه وبين الجمهور، فأتقن التعامل معهم، وعبر ساعات العمل الطويلة تمكّن من عصر ما بداخلهم إلى حيّز الأداء الخارجي، وكثير ما تذكّر ممثلو أفلامه خوضهم البروفات الطويلة، المليئة بالحب والألم والجهد، مع المخرج قبل بدء عمليات التصوير، حتى أن ممثلين كغاري أولدمان، وتيم روث يدينان للمخرج علنًا بكل ما تعلماه عن حقيقة فن التمثيل. رغم هذا الشغف بالمسرح، اختار كلارك، كغيره من فناني تلك الحقبة، التوجه للتلفزيون الذي بدا كوسيلة تعبير ديمقراطية للتنفيس عن الغضب المكبوت آنذاك. لقد انجذب كلارك للتلفزيون لأنه رأى فيه قوة تحريض شعبية تسمح بمخاطبة جمهور أوسع من جمهور المسرح. كما أن التلفزيون حكى قصص الطبقة العاملة، التي أهتم بها كلارك اهتمامًا عميقًا، وهو أمر لم تركز عليه السينما وقتها.



السياسة والعنف في أعماله
كان كلارك فنانًا راديكاليًا وصانع أفلام سياسيًا، تناول في أعماله موضوعات سياسيّة واجتماعية عدّة، فدرس الصراع المؤلم بين أصول البشر وانتماءاتهم، بين ما هو مكتسب وما هو جذري في تكوينهم الإنساني. ووقف وقفة مضادة للسلطة، متبنيًا بعض من الفكر الأناركي. وتنتقد الانتهاكات المؤسساتية بحق الأفراد، ففي معظم أفلامه يصور كلارك المؤسسة العسكرية بشكل سلبي؛ لقد قتل جدّه في اليوم الأول من الحرب العالمية الأولى، وعاد والده مصعوقًا من الثانية. فضلًا عن أنه اختبر بنفسه الخدمة العسكرية التي أمضى فترتها بمزيج من الجدية وسوء السلوك معًا، وهي الطريقة ذاتها التي عمل بها كلارك ضمن مؤسسة أخرى؛ الـ بي بي سي، صانعًا أهم الأعمال في أرشيفها التلفزيوني.

مع مرور الوقت، وفقدان أي أمل في التغيير السياسي والاجتماعي في بريطانيا، أضحت أعمال المخرج أكثر سوداوية وعدمية من ذي قبل، خصوصًا في ثلاثيته الشهيرة التي تصوّر العنف الجسدي القائم أثناء حكم رئيسة الوزراء البريطانية مارغريت تاتشر، من دون طرحها حلولًا أو طريقًا للخلاص، فكل فيلم منها ينتهي إلى ألم أكثر من ذاك الذي بدأ به. ولعل أكثر أفلام هذه الثلاثية شهرة هو فيلم Scum الذي يصوّر الظروف الوحشية التي يتعرض لها اليافعون في سجن إنكلترا للأحداث (بورستال).

تُعرض في الفيلم مشاهد قتل، اغتصاب، وتنمّر عديدة. يؤديها مجموعة من حراس البورستال ومسؤوليه، وبعض من محتجَزيه أيضًا، تجاه آخرين أضعف منهم. إن هذه الإصلاحية ليست إلا جزءًا مقتطع من العالم الخارجي القاسي، حيث البشر، كل البشر، سجناء تحكمهم شريعة الغاب، وتفرض عليهم التخلي عن إنسانيتهم من أجل البقاء. لقد رفضت شركة BBC بث دراما Scum في عام 1977 بحجة أن مجرياتها "غير واقعية". لكن كلارك لم يتخل عن مشروعه، فأعاد إنتاجه سنة 1979 كفيلم طويل، كان الأول له. والمثير للاهتمام، أن كلارك زاد في الفيلم من طول بعض المشاهد التي استفزت البي بي سي، لضرورة "موضوعية" على حد تعبير المخرج، كالمشهد الذي يتعرض فيه طفل للاغتصاب من قبل شباب آخرين في البورستال، بينما يراقبهم الحارس دون فعل شيء.

لقد أعطى كلارك، عبر نقد اجتماعي حاد، لمحة عن مستقبل يلوي الحاضر عنقه باستمرار. ورسم دوائر غير منتهية من أعمال العنف والقسوة؛ فلم تمنعه شاعريته المفرطة من رؤية الواقع كما هو، أو ربما بطريقة أكثر واقعية مما هو عليه. كما أن طرحه لهذه الموضوعات القاسية لم يكن مجرد استعراض سادي أو رغبة في تمجيد الوحشية، إنما هو تصوير دقيق للآلام الإنسانية، واهتمام حثيث بحياة الضحايا، والجلادين على حد سواء.

ركز كلارك على الإنسان بوصفه فردًا لا يشبه أحدًا، كما درس علاقته بالمحيط الاجتماعي. وكان لاكتشافه لقطات الـ  steadicam في التصوير أهمية فكرية كبيرة على أعماله؛ ساعدته على خلق الصدق والواقعية اللذين أرادهما دومًا. صوّر المخرج مشاهد عديدة لأبطاله وهم يسيرون، ومعهم تسير الأحداث، الدقائق، والحياة. كتب الناقد ديفيد تومسون: "لم يفهم أحد المعنى الوجودي للمشي كما فعل كلارك". لقد قدّم المخرج تشريح للمجتمع البريطاني المعاصر، ونظرة نقديّة مقرونة بوعي سياسي فني راكمه كلارك على مدار خمسة وخمسين عامًا من حياته؛ ففي عام 1989 شخصت إصابة كلارك بمرض السرطان، ليخطي، بعدها بسنة، خطوته الأخيرة نحو المجهول، بينما يواصل أبطال أفلامه رحلتهم الطويلة، مشيًا، حتى اليوم.