آكو عرب في الطيارة؟

آكو عرب في الطيارة؟

06 اغسطس 2019
+ الخط -
صديقي يا من تبحث عن عرب في الطائرة لمرافقتك في هذه النسخة الرديئة من الألعاب، هؤلاء الذين تفتش عنهم قرروا الاستنكاف عن صعود سلمها، وإليك الأسباب. 
غربة القيم المبثوثة في ثناياها لا تتناسب مع مرجعيات الأمّة، ويشوبها كمّ كبير من التحدي الذي لا يتوافق مع من كان في مقتبل العمر، لذا تعمل على رفع نسبة الأدرينالين بقدر مبالغ فيه، جراء الحماسة والتركيز الزائدين عن حدهما الطبيعي، ولا يمكن بحال من الأحوال الإفلات من توصيفها باللعبة الهرمجدونية بكل ما في الكلمة من معان، وبيان ذلك في كونها لا تتيح أي مهرب لأي طرف، والجميع مجبرون على حسم الأمور بالقتال ووحده القتال، فهل بعد ذلك من دموية، وهل بعد ذلك من استخفاف بعقولنا إن تم تسميتها بلعبة، وكان الأحرى أن تسمى وفق ما يتوافق مع حقيقة أمرها، وليست بالتالي سوى سلسلة من مراحل الإدمان والعصبية والاستفزاز والعزلة الاجتماعية، والتفكك الأسري الذي ينضوي تحت مظلة موقعة قتالية رأسمالها التحدي، أو لنقل هي انقطاع عن الخلق في منفى انعزالي بمحض الاختيار، يجبرك على الجلوس وحيداً لئلا يعكر صفو مزاجك أحدهم، في نوبة من التشنج المذموم، ومن هنا نتفهم المحاولات الحثيثة للسيطرة عليها أو التخفيف من آثارها عبر اتباع نظام إدارة أوقات اللعب في عدة دول قد يؤتي أكله في المستقبل القريب. 

ما دفعني للكتابة حين تعرفت إليها عرضياً، فشاهدت بالمصادفة منشوراً عبر "فيسبوك"، وفيه جوانب فكاهية تعرض صورة لشاب قطع أشواطاً في إدمانه عليها، إلى حد أنه ليس لديه الوقت الكافي للرد على السلام، لذا قام بكتابة الرد على لوحة كرتونية ووضعها بجواره، في حادثة تلفت الانتباه لمقدار تشتت الذهن، بحيث لا يمكن للمندمج معها مخاطبة الآخرين، وكأنه يحمل شعاراً مفاده: لا أريد المشاركة في الواجبات الاجتماعية، فأنا غير قادر على التواصل مع الآخرين ومخاطبتهم. 

 ظهرت اللعبة المسماة اختصاراً PUBG والمعروفة بالإنكليزية: Player Unknown's Battlegrounds أو ساحات معارك اللاعبين المجهولين بتاريخ 23 آذار عام 2017، ووصل تعداد المدمنين عليها إلى الملايين، وقد سبقها من قبل ألعاب تندرج في نفس الإطار تحت مسميات عدة، منها مريم والحوت الأزرق وفورتنايت، وغير ذلك، ولسنا هنا في معرض مجادلة المدمنين عليها، فعلى الرغم من كل طرائف المحادثات الصوتية ومزاج الأصدقاء المرح فلن يغير من حقيقتها شيئاً، حتى وإن أدمن عليها الملايين في هذا العالم.

والعجيب أنها غير مدانة في عالم اليوم القذر، الذي يتآمر على كل باحث عن الحرية بدعوى أن المعارضة مسلحة، فيقابلها بعنف أشد، فما إن رفع الإخوان شعارهم المسالم سلميتنا أقوى من الرصاص حتى تم إحراق شبابهم في ميدان رابعة، وقتل أيقونة الثورة محمد مرسي في وضح النهار، فتتساءل كيف يتم السكوت عن أمور كهذه تشرعن الوصول للهدف عبر العنف المسلح، وتشيطن أدوار الوسطية والليونة والتفاهم والحوار، ولذا نجزم بأن الحظر الذي فرض عليها في بعض البلدان حظر مبرر، ولكنه في بلدان أخرى لم يكن لغايات نبيلة دينية أو أخلاقية، بل لغايات تجارية دعائية. 

من الواضح أن تصميمها جاء بناءً على دراسات عميقة، تأتي استجابة لغرائز متعددة ولنوازع نفسية، ولربما تبدو جماعية في ظاهرها، إلا إنها في واقع الحال تعزز الروح الفردية المسيطرة، بدليل قدرة الفرد على تدمير حتى رفاقه، وما لذلك من انعكاسات صحية تسبب فقدان الأمان. 

تبدأ اللعبة بالإنزال المظلي من الطائرة، محاكاة عسكرية واقعية لطريقة القتال المفتوحة على كل الخيارات، ويكون هذا الإنزال باتجاه ثلاث خرائط يقوم اللاعب باختيار واحدة منهن ليدخل ميدان المعركة، وتختلف الخرائط الثلاث من حيث الحجم والطبيعة، فالخريطة الأساسية هي الخريطة المتوسطة، وتتألف من جزيرتين متصلتين وفيها عدة غابات، فيما تبدو الخريطة الثانية أكبر وذات طبيعة صحراوية، أما الخريطة الثالثة فهي الأصغر حجماً، وهي عبارة عن ثلاث جزر خضراء متصلة مع بعضها بجسور، وتستغرق ما يزيد عن نصف ساعة لحسم القتال بين قرابة مئة مقاتل دموي، هدف كل واحد منهم أن يكون الناجي الأخير، أو أن تكون مجموعته الرباعية هي الفريق الباقي على قيد الحياة.
 
أخطر ما في هذه اللعبة أنها تمهد لتقبل ثقافة القتل، وهي تعمل على تجذير السلوك العدواني، وتصنع أرضية صلبة جداً للسلوك الدموي المستقبلي، وإكسابه المشروعية عبر الهرب لعالم افتراضي فيه البطولة النظرية، والنظر باحتقار للواقع الحياتي الفعلي، وشحن الأفراد بثقافة السلاح، والاستمتاع بالقتل المتعدد. 

أما بخصوص نواتج تهكيرها، فتشجع على العمل غير المشروع، وتشرعن التسلق والوصولية، من خلال إتاحتها معرفة الخصم من خلف الجدار، وتحديد المواقع وإتاحة التغلب على الآخرين، ومعرفة المسافات ومواقع السيارات والطرق وأماكن العتاد والهاك بدون باند، وهي العقوبة التي تفرض في حالة مخالفة القواعد.
صحيح أن المحادثات بين كل مجموعة قتالية تتألف عادة من أربعة أشخاص تحوي مواقف طريفة، ويبرز فيها عنصر التندر والضحك في خاصية المحادثات الصوتية، بما تشتمل عليه من مواقف وقصص، إلا أن هذه التكتيكات تتبع بصورة مطلقة، وهي لا تتيح خاصية التوقف وسماع الأم مثلاً كبقية الألعاب، ولا تحوي خيار الانسحاب، لذا تساهم في إكساب اللاعب قابلية العنف والكسل والتذمر وعدم مساعدة المقربين والتراجع في الواجبات المجتمعية. 

إن التنازع الذي تكشفه عملية البحث عن السلاح وتتبع ما تلقيه الطائرة، يبين همجية صراع البقاء، كما يعمل على الترسيخ الشديد للنزعات القتالية في النفس، ما يفرض على كل لاعب بذل جهود جبارة بسبب شدة التركيز والضغوط التي يواجهها، كالخوف من الخصوم المتربصين من مسافات بعيدة والحذر الشديد منهم، وبالتالي تستوجب تدقيق النظر للآفاق، هذه الضغوط من كافة الجهات كتناقص حجم الزون، وضغوط محاولة الصمود لأطول فترة ممكنة، واليأس وفقدان الأمل إلا في الزناد كرهان أخير تحفر نفسها بعمق في الذات البشرية، وبالأخص الجيل الناشئ، وتنتزع الثقافة التقليدية من هذا الجيل لزرع أخرى وافدة، فنحن هنا بصدد لعبة عصابات إجرامية تقوم على التقعيد لمفهوم العصابة وشرعنته، وتجعل المدمن عليها غير قادر على التفريق بين العالم الافتراضي والواقعي، وبالتالي الهرب والانسحاب من مواجهة المجتمع في حالة مرضية اغترابية، وتزيد من مهاجمة الخصوصية لدى الآخرين، فهي مسؤولة عن غسل دماغ الشباب ومنهم العربي، وتعزز العزلة عبر المحتوى العنيف المؤثر على الأعصاب، وإبداء مظاهر الغضب كقذف الأشياء في كافة الاتجاهات. 

أما بخصوص التضحية بالوقت فحدث ولا حرج، وما يترتب عليه من الانفصال عن الواقع نحو العالم الافتراضي، وأما التأثيرات الاجتماعية فتتمثل في الطلاق والقتل والإدمان والعداوات، ناهيك عن اضطرابات النوم والامتناع عن أداء الواجبات الاجتماعية.

وفي الختام لك أن تتصور خطورة أن قطع السلاح واقعية بتأثيرات ليست بالضرورة آنية، بل لها أبعاد صحية مستقبلية، وهذا يحتم التحذير المستقبلي من الإصدارات الأشد خطورة، فلا بد من إجراء تعديلات عليها.

دلالات