آراؤنا الذاتية والتنميط!

آراؤنا الذاتية والتنميط!

09 سبتمبر 2019
+ الخط -
كم نضع لمن حولنا ولما نعاينه من أمور وأحداث على الصعد الاجتماعية والحياتية مقاييس صارمة حازمة، تشكل هذه المقاييس آراءنا في أي شأن من الشؤون، فنلتزم بها ولا ننفك عنها، فهل هناك على سبيل المثال مقاييس محددة للجمال أو للذوق أو للطعام؟.. ترى الواحد منا يتضجر من مقاييس الجمال الغربية التي اجتاحت مجتمعاتنا، التي استقت من عارضات الأزياء أو "مشاهير هوليوود" وغيرهم، وغيرها من هيمنة سلطة الثقافة الغربية المنتشرة بيننا انتشارًا هائلًا.

وعلى الرغم من تضجرنا من "آثار" هذه الهجمة الثقافية، نحول آراءنا الذاتية إلى قواعد صارمة تفرض نفسها في تعاملنا مع كل ما هو حولنا.. فيضع الواحد منا نفسه في قالبٍ جامد، ينغمس فيه لدرجة غير مسبوقة، ونبدأ بإصدار المواقف المختلفة في العديد من الأمور، منها ما هو حياتي خاص يتصل بالذوق والتفضيلات الشخصية ابتداءً، وتتصاعد لتصل للمجتمع وظواهره، والميول الدراسية للطلاب وتقييمهم على أساسه، وصولًا للسياسة والمواقف من الشعوب الأخرى وقضايا الساعة.. مواقف وآراء لها اتصال مباشر بالعاطفة في كثير من الأحيان، أو الموقف الذاتي..


وأضرب هاهنا ثلاثة أمثلة في كلٍ منها اتصال بشأن من الشؤون التي ذكرتها:
المثال الأول: من يفضل مقياسًا بعينه من الجمال، ويبني عليه قاعدة عامة صارمة لا مناص منها، ولا يمكنه الفكاك عنها، فعند أحدهم -مثلًا- الفتاة الشقراء هي أسُّ الجمال وركيزته، أو عندها مثلًا الطفل ذو العينين الزرقاوين ولا غير.. ويصبح تعاملنا منحازًا لهذا أو لتلك بناء على هذه المقاييس، وتجد في الكثير من المجالس منافسة شديدة بين هذا الرأي أو ذاك، متناسين أن الجمال نسبي بين البشر، وأن ما أفضله ليس قاعدةً بل اختيار تتنوع فيه الأذواق والمشارب، وكم لفتني مرة أن فتاة من البشرة السمراء رفضت خاطبًا من أصحاب البشرة الشقراء، مبررة أنها تريده صاحب سمرة ريانة.. ومن أضراب هذا الكثير والقاعدة تقبّل الآخر كل الآخر..

المثال الثاني: ذلك الرأي المنتشر في مجتمعنا، أن أصحاب التخصصات الفلانية أفضل وأهم، أو أنهم أكثر ذكاء من غيرهم، وهو رأي جارف حتى أصبح رأيًا جمعيًا في العديد من المجتمعات، وخاصةً بين أولياء أمور الطلاب، فترى الواحد منهم إن كان ولده ضعيفًا في الرياضيات سارع بالاستعانة بأفضل المعلمين وأمهرهم، وأدخل ولده الدورات المعنية، وإن كان ولده مقصرًا في مواد أخرى كالعربية أو أضرابها، يكون التحرك أقل بكثير... وربما يفرض النظام التعليمي مثل هذه الخطوات، وبكل تأكيد -ظنًا وليس قطعًا- أن هناك من لا يريد لأولاده التفوق والتميز، أو أنه يريد لهم أن يصبحوا مقصرين في واحدةٍ من هذه المواد.

ولكن الطامة الكبرى عندما نقيّم الناس على أساس ميولهم، فعندهم المبدع بالمواد العلمية هو المتفرد المقدّم المميز، ومن كان له ميل آخر نحو العلوم الاجتماعية يُرمق بنظرات الشفقة، فهو أقل من سابقيه، والطامة بتلك المواقف الي تصدر حول التعليم المهني وأشباهه، إذ يتم التعامل مع هؤلاء الطلاب كأن إعاقة أصابتهم أو مسهم مرضٌ لا شفاء منه.. إذًا نحن هنا أمام مقياس ذاتيّ آخر وقصور في فهم ما يجب علينا أن نزرع في أبنائنا، وما ينعكس على المجتمعات من حاجات في اختصاصات كثيرة يسدها من هم من خارجه منفصلون عن قيمه وتاريخه وعاداته.. فكل العلوم أساسية مطلوبة..

المثال الثالث: هي مواقفنا من شعوبٍ بعينها، ووصمهم بأوصاف من نحو "متخلفين" و"حرامية" وغيرها، وتحفل كل بيئة بالكثير من هذه المواقف في سياق تنميط الآخر ووسمه بكل نقيصة ودونيّة، وهي من الطامات الكبرى، ومن يكون منفتحًا على البيئات والمجتمعات المختلفة، يجد أن الصورة الحقيقية مختلفة عنها تمامًا، ففي كل مجتمع الصالح والطالح، وفيها من يحلق للمعالي أدبًا وطرفًا ومودة، وفيهم من ينزل أسافل الحمأ قُبحًا ودناءة.. وكم يضحكني في جلسات مثل هذه -عندما تكون هويتك الحقيقية غير معروفة - لمزًا من أحد هؤلاء إلى غيرهم، وكيف يصدم بأن فلانًا صاحب التخصص النادر فلسطينيّ، أو الآخر المنفتح صاحب الدماثة لبنانيّ أو أن فلانًا المعطاء الباذل للخير هو سوري.. وغيرها من الأمثلة..

نعود إلى الموضوع الأساس، ما نقوم به بوعي أو بغير وعي، من هذه التعميمات وما يرافقها من تعامل خاصة لمن يحتك مع الناس بكثرة، كالمدرس على سبيل المثال، حالةٌ يجب القضاء عليها بالتدريب والتفكر في خلق الله سبحانه وتعالى، ولن أكرر ما ورثناه من نصوص سامية في وحدة المجتمع ووشائج التواصل فيه، ومواضع التفاضل وارتباطها بمقومات خُلقية لا خَلقية، ولا ببيئات ومجتمعات وأفكار مسبقة نطلقها ونتفنن بها..

ختامًا لا تكن من أصحاب الآراء السابقة فلا تقرأ التدوينة حتى نهايتها، فربما ليس فيها جديد إلا أنني لست ممن يحب التمجيد..
31613475-73A0-4A3D-A2F9-9C1E898C5047
علي حسن إبراهيم

باحث في مؤسسة القدس الدولية. كاتب في عدد من المجلات والمواقع الالكتروية. عضو رابطة "أدباء الشام".