"30 يونيو" بأثر رجعي

"30 يونيو" بأثر رجعي

29 يونيو 2020

آلاف المصريين يتظاهرون في الاسكندرية ضد مرسي (30/6/2013/فرانس برس)

+ الخط -
كانت مظاهرات 30 يونيو/ حزيران 2011 في مصر في سياقها. دعوة إلى مظاهرات تهدف إلى إحراج النظام، وإجباره على تغيير سياساته، مطالبة بانتخابات رئاسية مبكّرة، قد تنجح فتأتي بنظام أفضل وأكثر تعبيرًا عن ثورة يناير، أو تفشل مثل غيرها، وهو الأقرب إلى الواقع، لكنها تُحرج النظام بالقدر الذي يزحزحه قليلا، وينتزع منه بعض المكاسب، تغيير الحكومة مثلا، تلك التي كان يصرّ عليها، رغم أنف الجميع، فيما يرفضها مؤيدون له قبل المعارضين ومعهم. الإخوان المسلمون، بدورهم، كانوا يرونها بالشكل نفسه، مجرّد مظاهرات، وبعضُهم كان يراها المحاولة الفاشلة الأخيرة للمعارضة البائسة التي لا تجد سندًا من مؤسسات الدولة، وأهمها الجيش الذي يقف مع "الإخوان"، كما كانوا يتصوّرون، ولا ظهير شعبيا، فالجماهير مع "الإخوان"، أيضا كما كانوا يتصوّرون.
كانت حسابات أجهزة الدولة مختلفة، وتسرّبت معلومات، في الشهور التي سبقت "30 يونيو" عن الأهداف الحقيقية من ورائها، وكيف تخطّط الدولة لاستغلالها، وركوبها. وكانت تسريباتٌ أخرى عن حركة تمرد، وعلاقتها بأجهزة الأمن. وكان الجميع، وأولهم الإخوان المسلمون، يتعاملون مع هذه التسريبات بوصفها مبالغات، وثمّة شهود كثيرون، كانوا يلتقون الرئيس محمد مرسي، ويسألونه عن "30 يونيو" فيطمئنهم، جازمًا أن "الجيش معنا"، وهم أحياء يرزقون، بعضهم في السجون، وبعضهم خارجها، وخارج مصر، لمّا يسمح له أن يدلي بشهادته، وهو ما أتمناه، لوجه الحق، والاستفادة من التجربة.
لم يكن الرئيس وحده من يطمئن لموقف الجيش الداعم له، ولاستمرار جماعة الإخوان المسلمين في السلطة، وهو ما دفعه إلى عدم الاستجابة "الجدّية" لمطالب معارضيه، ومحاولة "التفاهم"، والتنازل، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه، فهو لا يحتاج، في وجود الجيش، القوة الأكثر تأثيرًا، إلى جانبه. ثمّة لقاء شهير مع القيادي في جماعة الإخوان المسلمين، عصام العريان، تداولته مواقع التواصل آلاف المرّات في السنوات السبع الماضية، لكننا ننسى، يتحدّث فيه عن ثقة الإسلاميين، جميعا، لا "الإخوان" وحدهم، بالجيش، وقياداته الحكيمة، الداعمة للشرعية، الضامنة للديمقراطية، الحامية للثورة. ويستثني الداعية الإسلامي حازم أبو إسماعيل بوصفه مسكونا بهواجس الانقلاب العسكري، بتعبير العريان. لم تكن هذه التصريحات محاولات ساذجة لاستمالة الجيش، أو "طيابة" سياسية، كما يروج إعلام "الإخوان" الآن، بل قناعات، وتحالفات، واتفاقات، وتربيطات، منذ اليوم الأول، وهو ما طمأن "الإخوان" على استقرار سلطتهم، فبادلوا معارضيهم تشنّجا بتشنج، وازدراءً بازدراء، وتخوينا بتخوين، وغابت سياساتهم التوافقية التي ظهرت في انتخابات البرلمان، ما قبل الرئاسة، حين نزل خصومهم الأيديولوجيون على رؤوس قوائمهم، وحلت محلها سياسات "أعلى ما في خيلكم اركبوه"، وكان ما كان.
والآن، مرّت سبع سنوات، فهل تجاوزنا أسباب "30 يونيو" ونتائجها؟ في تقديري أن المحدّد الرئيس الذي غاب عن الجميع فغيب الجميع هو محدّد "التفاهم"، لا الاتفاق، ولا الاصطفاف، ولا التحالف، ولا شيء من هذه الخرافات، والمثاليات، التي لا مكان لها في عالمنا. فقط التفاهم، وهو الذي يبدأ بالوعي، ويستمر بالتنازلات المتبادلة، ويؤول إلى التطور الواقعي، و"الممكن الوحيد". يريد الإخوان المسلمون دولة دينية، يسمّونها مدنية، ويريد التيار الديمقراطي دولة مدنية، بمواصفاتٍ غربية، يتصوّرونها مصرية. ويغيب عن الطرفين "تنظير" حقيقي، وممكن، لدولة مصرية، تستوعب الجميع، هنا والآن، وتحقق من الحريات والعدالة وكرامة المواطن ما يؤهلها للاستمرار بخطواتٍ ثابتة، لا قفزات، يسهل معها عرقلتها، وتهشيم عظامها، وهو التنظير، والوعي، الذي لن يأتي إلا بالممارسة، وتجرّع سم التنازل.
يظهر عدم الاستعداد للتفاهم في كل خلافاتنا، ومعاركنا، إلى اليوم، كأن كارثةً لم تحدُث، خلافات السياسة والدين والاجتماع، الموقف من سد النهضة الإثيوبي، من إغلاق المساجد خوفا من كورونا، من حقوق المثليين، بل والموقف من رفض ممثلٍ محافظٍ أداء مشاهد ساخنة. الجميع يريد تطبيقًا كاملًا وحاسمًا وناجزًا وفوريا لقناعاته. الجميع ينطلق من يقين مغلق، ويرى التفاهم، والحلول الوسط، ميوعةً، وتراخيًا، و"طريانا"، فإما البركة فورًا أو اللعنة فورا، والحال أن أحدا لا يستطيع إزاحة الآخر، والنتيجة: تبقى الدولة البائسة على ما هي عليه، وعلى المتضرّرين جميعًا اللجوء إلى العدم.