"200 م" في "فينيسيا 77": عينٌ تقول صُوراً

"200 م" في "فينيسيا 77": عينٌ تقول صُوراً

04 سبتمبر 2020
علي سليمان: نظرات تروي حكايات وانفعالات (الملف الصحافي للفيلم)
+ الخط -

قصّة عائلة يفصل الجدار العنصري الإسرائيلي بين أفرادها، المتمكّنين من تجاوزه، ولو بنظرةٍ وتواصل هاتفيّ وضوء يُضيء بعض العتمة القاسية. "200 م" للفلسطيني أيمن نايفه (1988)، يقول شيئاً من وقائع العيش اليومي على حافة الجدار. الفصل بين الفلسطينيين يهدف إلى تفكيك عائلات، والقضاء على ارتباطٍ ببلدٍ ومجتمعٍ وأرضٍ وتاريخٍ. أيمن نايفه يبتعد عن قولٍ مباشرٍ، موكلاً مهمّة السرد إلى صُوَر وحوارات وتفاصيل. يلتقط لحظةً فلسطينية تُشبه لحظاتٍ سابقة، فالسياق مستمرٌّ في ضخّ سُمٍّ إسرائيلي في الناس وأحوالهم، وإنْ ينجح السُمّ أحياناً في تحقيق المُراد منه، فإنّه يفشل في القضاء على رغبة المواجهة بشتّى الوسائل. المشهد الأخير من "200 م" يوحي بأنّ شيئاً لن يتغيّر، فالجدار قائمٌ، والتنقّل في فلسطين المحتلّة دونه صعوبات وتحدّيات، معظمها قاتلٌ، والقتل معنوي وجسدي.

 

 

جهتان متقابلتان يمرّ بينهما جدارٌ يشقّ أرضاً ويبتلع حقّاً ويُبدِّل معالم وجغرافيا. مصطفى (علي سليمان)، المُصاب بعطبٍ في ظهره، يحاول عملاً لإعالة زوجته سلمى (لنا زريق)، التي تمارس وظيفتين لتلبية الحاجات اليومية لهما، ولأولادهما الثلاثة، مجد ومريم ونورا (توفيق ومريم وسلمى نايفه). تفاصيل تمرّ بهدوء، لكنّ الحاصل لاحقاً يكشف أنّ تقديم المناخ العام للحكاية والعائلة، وللمصاعب التي يواجهها أفراد العائلة جميعهم، يطول أكثر من المتوقَّع، قياساً إلى الحاصل لاحقاً نفسه. مجد غير مرتاحٍ في مدرسته الجديدة، ما يُثير قلقاً وغضباً في ذات والده، خصوصاً أنّ سلوى تريد إرساله إلى مخيّم صيفي ربما يوجد فيه إسرائيليون (ما الذي يُمكن أنْ يحدث لو أنّ التشابك بالأيدي بين مجد وزملاء مدرسته الفلسطينية يحصل في مخيّم "إسرائيليّ"؟ يسأل مصطفى بتوتر). عبور الحاجز للعمل في ورشة بناء في منطقة "إسرائيلية" لن يكون سلساً دائماً. أوراق وإجازات عمل وضرورة الاستيقاظ باكراً للوصول في وقتٍ ملائم، والعمل نفسه لدى إسرائيليين، مسائل يُراد منها "إذلال" الفلسطيني في مدينته وبلده واجتماعه.

الفصل الثاني من "200 م" أهمّ، سينمائياً وجمالياً ودرامياً وسردياً. يُصاب مجد بعطبٍ جسدي، فتنقله سلوى إلى مشفى إسرائيلي. يصعب على مصطفى الانتقال إليه، فهذا الانتقال يحتاج إلى معاملات ووقتٍ، لأنّ مصطفى يرفض "هوية إسرائيلية" تُخوِّله الانتقال إلى "دولة إسرائيل". التسلّل وسيلة، لكن الرحلة تطول كثيراً (بالنسبة إلى مصطفى)، ورفاق الرحلة نماذج مختلفة لن تختزل الفلسطينيين بقدر ما تقول شيئاً من وقائع عيش بعضهم في بلده المحتلّ.

يتجنّب أمين نايفه، في كتابته النص السينمائيّ، قولاً مباشراً. يدفع شخصياته إلى كلامٍ يكفي، إلى حدّ كبير، للتعبير عمّا يُراد التعبير عنه. فالمواربة الكلامية أداة أفضل للتعبير، وجعل الصُور واللقطات والتعليقات والملامح مرايا تعكس ذوات وهواجس وقلاقل، وسيلة أجمل للبوح.

 

 

للكلام موقع أساسيّ، فـ"200 م" غير صامتٍ، والصمت فيه قليلٌ. لكن الكلام واقعيّ، يتفوّه به أناسٌ يعيشون تلك الوقائع القاسية يومياً. يتكلّمون لهجات فلسطينية، وبعضهم يُتقن الإنكليزية والعبرية. الشابّة الألمانية آنْ (آنّا أونتربيرغر)، الراغبة في تصوير فلسطينيين يتسلّلون عبر دروب جانبية لبلوغ أماكن يُمنع عليهم زيارتها، تنكشف هويتها الحقيقية لاحقاً، فإذا بها يهودية ينخدع بها كفاح (معتز ملحيس)، الذي تختاره آنْ نموذجاً لهؤلاء المتسلّلين. لحظة المواجهة والكشف، قبيل النهاية، تتحرّر من كلّ خطابيّة جوفاء، لأنّ الكلام واقعي وعملي، ينبثق من توتر المعرفة وقلق الخديعة. لا وقت للشعارات والخطابية، فالواقعية تدفع مصطفى إلى تجاوز محنٍ صغيرة كتلك، فالمُصاب الفعلي أكبر وأعمق وأخطر، وإنْ يتمثّل بعطبٍ جسدي لمجد، فهو (المُصاب الفعلي) عطبٌ يتغلغل في جسد فلسطين وروحها، وفي أرواح فلسطينيين وأجسادهم.

الرحلة طويلة، لأنّ الدروب الجانبيّة متشعّبة، والعاملون في تسهيل التسلّل الجانبيّ موزّعون في أمكنةٍ مختلفة، والزحام كثيرٌ على الحواجز الإسرائيلية. التسلّل نفسه يحتاج إلى خبراء يُتقنون التعامل مع جنود الاحتلال، فهناك منافذ يُضطرّون إلى اختيارها رغم كونها إسرائيلية. هذا كلّه مشغول بسلاسة سينمائية ترتكز على راهنٍ وعيشٍ، ما يؤهّله إلى كشف وقائع بلغة مبسّطة، تتضمّن ترفيهاً وتسلية أحياناً، وتنفتح على غضبٍ وتصادم بين الفلسطينيين أنفسهم أحياناً أخرى. والتحايل على الجنديّ الإسرائيلي فعلٌ يومي مطلوب، فهذا جزءٌ من المواجهة الدائمة بين الطرفين.

يُقرأ "200 م" ـ المُشارك في مسابقة "أيام فينيسيا" في الدورة الـ77 (2 ـ 12 سبتمبر/ أيلول 2020) لـ"مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي"، في عرضٍ دولي أول (له حفلتان اثنتان يوما 8 و12) ـ كنصٍّ مفتوح على أحوال بيئة وأفراد ومناخٍ وتواصل وعيشٍ، وكسردٍ لفردٍ واحدٍ يُحوِل عينيه إلى كاميرا تلتقط جوّانيته كأبٍ وشابٍ وعاملٍ ومواطن تحاصره مخاطر وانكسارات ومواجع، وتوثِّق يوميات بلدٍ محتلٍّ، من دون أنْ يغرق التوثيق بثرثرة خطابية نافرة.

يُقرأ "200 م" أيضاً عبر ممثلين، يتقدّمهم علي سليمان بحِرفيّة غير محتاجة إلى إضافاتٍ لمنح الشخصية مصداقيّتها وحساسيتها وواقعيّتها، بمرافقة لنا زريق، المحمّلة بهموم أمٍّ ورغباتٍ امرأة وانفعالات زوجة، مُقدِّمة هذا كلّه بعفوية وشفافية.

 

(*) "200 م" (2020، 86 دقيقة): إنتاج مي عودة، بالاشتراك مع "ميتافورا للإنتاج" و"ميمو فيلمز" و"أدكر إنترتيمينت" و"فيلم آي سكونا" و"إي فينتشر فيلمز"، بدعم من جهات مختلفة، منها "مؤسّسة الدوحة للأفلام" و"صندوق الثقافة الفلسطيني". تصوير: إلين كيرشفينك. تصميم الصوت: سيلفان بيلّمار. موسيقى أصليّة: فرج سليمان. مونتاج: كمال الملاخ).

المساهمون