"وينن؟... ما شفنا شي!"

"وينن؟... ما شفنا شي!"

10 يناير 2018
+ الخط -

منذ بضع سنوات في رمضان، كنت مع بعض الأصدقاء نعمل في الجمعية الخيرية بالنبك في ريف دمشق كمتطوعين معظمهم من أهل المنطقة وبعض الشباب ممن نزحوا إليها، وكان أهل الخير فيها يتسابقون لمساعدة من نزح من حمص والقصير وقراهما، وفي أحد المجالس ذكر أحد الأهالي أن الحاج فلان (رحمه الله) تبرع وحده بمبلغ كذا وكذا ما شاء الله، فقاطعه أحد الحاضرين وقال "وينن؟ ما شفنا شي!"، ثم تمتم قائلاً على سبيل المزاح "لسه مقضينلي ياها توزيع فروج وبيض.. عطونا ياهن خرج ناشف (كاش) يا خي ونحنا منشتريهن بكرامتنا!"، وتجاهله الجميع لسذاجة المقترح وضحك بعضهم الآخر لعلمهم يقينا أن ما تبرع به التاجر قد تم توزيعه على الكثيرين وتم توثيقه، ولم يتم "إخفاؤه" كما يظن، ربما لم يكن المحتج أحد المستفيدين وقتها، وربما كان من حيث لا يدري.

تكررت العبارتان كثيراً أمام مسمعي وفي كل مرة تزعجني وتشعرني بالذنب بحق من تبرعوا حتى في حال عدم وجودهم معنا وعدم سماعهم للعبارات تلك أو الاتهام للموجودين، وأحزن كغيري من الفريق لعدم تقدير من قاموا بمبادرة شخصية كاملة من حر مالهم رغم المخاطر التي يعرفونها تماما -قتل معظم المتبرعين والمتطوعين وحتى أدمن الصفحة لاحقا تحت التعذيب بحجة مساعدة الغرباء-.. وكنا نواسيهم ونقول لهم "عند الله ما بيضيع شي".


لكن البارحة وأثناء تصفحي لموقع المفوضية وجدت أن عدد اللاجئين في لبنان أصبح للمرة الأولى بعد وصوله إلى الذروة أقل من مليون مسجل (UNHCR)، وأن إجمالي ما طلبته المفوضية كخطة مساعدة يفوق الملياري دولار أميركي في الموقع الرسمي ذاته، ثم مررت بتقرير دولي حول اللاجئين أو بالأحرى "النازحين" -وتلك قصة أخرى- في لبنان يذكر فيه أن أقل من 2% من الأطفال دون السنتين يحظون بغذاء كاف، وأن 76% من النازحين في لبنان تحت خط الفقر مقارنة بـ49% عام 2014 وبأن ثلاثة أرباع أرباب الأسر السورية يقترضون المال لتأمين الطعام. (VASyR 2017).

وبحسبة بسيطة ينتج معنا بالـ"خرج الناشف" أن محصلة ما كان مخططا لإنفاقه على النازحين السوريين في لبنان فقط للعام الحالي كان ألفي دولار لكل شخص -ناتج قسمة مليارين على مليون شخص مسجل-، ولأنه كما يقول الباحثون في علم التربية "امدح الجهد المبذول" مخالفين هنا مقولة يؤمن بها أنجح رجال الأعمال والتجارة "احكم عليك بالنتائج وليس بالجهد أو بالمحاولات، ولا تحدثني أبدا عن طول ساعات العمل.."، نمدح الجهد المبذول بعد كل هذه السنين من العمل والتقارير والاحصاءات والأرقام حتى لو لم تسمن ولم تغني النازح من جهل أو مرض أو جوع، في كل البلدان المجاورة وغير المجاورة التي تضرر فقراؤها وزاد غنى أغنيائها وحكامها..

وأعلم تماماً ما يخطر ببال جارنا العزيز اليوم فهو يريد أن يسأل مرة أخرى "وينن؟ ما شفنا شي!" ويتمنى لو يستطيع أن يقولها وجها لوجه للسيد الذي أتى خلفا لبان كي مون الذي لا يهمه أن يحفظ اسمه ويضيف "لو عطيتونا ياهن خرج ناشف ما كان أحسن؟!".

أتمنى أن أراه فأرد له مجيبا من دون شعور بالذنب هذه المرة: "يا جار إذا صرت تقبض بالسنة 10 آلاف دولار وأنت قاعد مع عيلتك اللي فيها 5 أشخاص بتصير بتبعت أولادك ع أحسن مدرسة خاصة بمصرياتك وبيضربلك المدير تحية وبتبعت مرتك تولد بالمشفى بمصرياتك والدكتورة ما بتقلكن حاج تحبلوا يا هالسوريين وبتشتري أكل من أي محل بمصرياتك وما بيقلك صاحب المحل ممنوع تشتري دوا غسيل وبتدفع أجار البيت من مصرياتك وفوقها بتشتغل وبتبعت مصاري للي جوا وبتتبرع أنت للجمعيات الخيرية هون وهون وبتبعت ابنك عالبكالوريا وبعدا عالجامعة وبتبقى كرامتك بالسما ما حدا بيطولها ولا بيقدر يهينك ولا يزعجك ولا يربحك جميلة لما يقدملك خدمة... يا جار لما منكون مرتاحين شوي ماديا بكل البلاد منرجع متل أول راسنا كبير وما منتنازل عن كل اللي كان بدنا ياه جوا البلد، وهالشي ما بيسرب مع المجتمع الدولي الحنون اللي عم يحفر طريق الرجعة الذليلة فوق مقابر الشهداء اللي راحوا مشان كرامتنا.. ونقتنع بالآخر أنو الحرية هي اللي وصلتنا لهون وهنن واللي هدموا البلد على روس أهلها مالن علاقة!"
21489832-C371-4862-87C6-31E2F9D63FF6
محمد المصري

من مواليد 1986، القصير - سورية. درس الأدب الإنكليزي والماجستير في تدريس اللغة الإنكليزية، ويكمل حاليا الماجستير في إدارة الأعمال في لبنان.عمل وتطوع في عدة مؤسسات وجهات إنسانية وتربوية، ويدير حاليا برنامج تعليم الطلاب السوريين في لبنان، في منظمة مابس والتي تضم 184 معلما ومعلمة.

مدونات أخرى