"واعرفنا من سبب جراحنا" ... الحراك العربي الجديد

"واعرفنا من سبب جراحنا" ... الحراك العربي الجديد

28 نوفمبر 2019
+ الخط -
على وقع الموجة الثّانية لحراك العالم العربي، فانّ تحاليل كثيرة ركّزت على سياق سياسي محلّي تشارك معطيات الموجة الأولى نفسها في إثارة الشّعوب وتحريكها (العربية وأخرى في مناطق العالم المختلفة) للنّهوض دفاعا عن حقوقهم وسعيا إلى تغيير الأوضاع، إلّا أنّ ما لم يتمّ التّركيز عليه هو الأسباب الحقيقية للثقافة السياسية للصّراع المزمن بين السّلطات وشعوبها، وهو ما تحاول المقالة قراءته من خلال ما يشير إليه عنوانها، وهو من قصيدة أحمد فؤاد نجم "شيّد قصورك"، من الجزء فيها الذي كان يستوقف كلّ مصغ ومحبّ للأشعار الثّورية، هو "واعرفنا من سبّب جراحنا"، لأنّ إدراك المسؤول عن المآسي يقلّص من تعب التّفكير والبحث عنــه. وفي أوطاننا العربية يُعرف من سبّب الجراح ومن سبّب المآسي، كما يعرف الجميع الفاسد، المفسـد ومسهّل الفساد، إضافة إلى السّاهر على إدامته خدمة لنا. إذ لا يمكننا النّوم ملء الجفون، إذا لم يكن ثمّة من يقوم بذلك الواجب، ليسومنا سوء العذاب.. في بلادنا. أو، لنقل، في بلادهم لأنّنا ضيوف، أو هكذا يُنظر إلينا، شئنا أم أبينا، علينا ترك المكان لهم عاجلا أم آجلا.
إنه الصّراع اللامتناهي، في عالمنا العربي، بين ثقافتين سياسيتين، إحداهما سلطوية من طبقة الحكّام والأخرى قاعدية ممّن هم في الجهة المقابلة في لعبة التسلّط على رقاب الشّعب، الرّعية أو المغرّر بهم، وفق لغةٍ أصبحنا نعرفها، إذا فكّروا، لحظة، رفع رؤوسهم والتّنديد بمن يسبّب لهم جراحهم.
يشير السّبب الأول إلى طريقة صعود الحكّام إلى السّلطة، والذي يكاد يكون، في بلاد العرب،
بمقاربة واحدة، هي أقرب إلى التصرّف في ملك شخصي وحصري منه إلى بلادٍ يعيش فيها شعب وسلطة في إطار عقد اجتماعي توافقي، وهو ما يفضي، في نهاية الأمر، إلى قطيعة أولى يعلم، من خلالها، الجميع أنّ ما جرى مجرّد مسرحية بين الممثّلين والجمهور منصّة هي رمز تلك القطيعة و الفوقية، وكلّ يغنّي، بعد ذلك، ليلاه.. إنها ثقافة سياسية مبتكرة، سلطة تملي وتقرّر وشعب يتجاهل، يمتنع ويقاطع.
يأتي السّبب الثّاني مشيرا إلى نخبة وقاعدة واسعة تستأثر الأولى على كلّ شيء، بل وتعمل الآن، لضمان بقائها، بعد أن تزول بيولوجيا، لتوريث كل شيء من السياسة إلى المال، بل الدولة أيضا، في حين أنّ القاعدة لها الفتات، الفقـر والبيئة العفنة، ولها أن تورّث ذلك، لتكون النتيجة هي صراع بين قلب ومركز وأطراف وهامش، وكلاهما رافض للآخر إلى إشعار تقرّره السلطة، أي القلب والمركز، بإيعاز ومساندة/ مساعدة من نخبة أعلى، إقليمية أم دولية كانت، في إطار لعبة مصالح و تبادل أدوار.
السّبب الثالث هو العجيب حقّا، إذ يشير إلى التساوي، أو لنقل التوازي، التّام بين السّلطة والشعب في القطيعة التي يوليها كلاهما للثقافة السياسية التي ينتجها إدراكه و مسلكيته بشأن هيبة/ قدسية الدولة، السّلطة، النّفوذ، من ناحية السّلطة والقطيعة التشاركية، العزوف الانتخابي، التهرّب الضريبي، الهجرة غير الشّرعية ومقاطعة بل القطيعة مع الدولة في عدم التعامل مع مؤسساتها إلا فيما ندر. وهذا، طبعا، من ناحية الشعب، استجابة لتحدّي صفقة النسيان لحقوقــــه والتّغاضي عن كرامته مع نهب أمواله بل دولته، بصفة كاملة وشاملة. ويكمن العجب، هنا، في أن كلا الجسمين، السّلطة والشعب، يعترفان بتلك القطيعة ويتعايشان بها، بل تسارع الدولة بالاعتراف بتلك القطيعة من خلال معادلة المواطنين الأشراف في مقابل المواطنين الخونة الرّافضين تلك القواعد، أو الصّفقة التعاملية، ودليل ذلك أنّ بعضهم تغنّى بتلك القطيعة، عندما أنشد "أنتم شعب ونحن شعب"، ذلك أنّ بلاد العربان كثيرا ما تتضمّن شعبين فوق أرض الدّولة الواحدة وكأنّه شيء طبيعي وعادي، تماما.
تنتهي تلك الأسباب الثّلاثة، مقاربات الاستبداد، والتي ما هي إلاّ جزء من أسباب أخرى كثيرة، إلى ما يمكن أن يلاحظه المتابع للشّؤون العربية، حيث الحساسية الشّديدة لدى السّلطة الحاكمة في الإشارة إلى العقد الاجتماعي، كونها إشارة إلى عقد بين طرفين متساويين. ولهذا تعمد تلك السلطة إلى استخدام مفهوم النظام عمدا، لأنّه يتضمّن إيحاءً إلى صدور الأمر من سلطة أعلى ووجوب إذعانٍ ممّن هم في الأسفل، لأنّ ذلك المفهوم هو، في الحقيقة، إشارة إلى تحكّم بالحديد والنار وبأدوات البطش في كل ما هو خارج دائرة مركز توازنات الحكم ونخبته، مضافا إليها حواشيها ومن تتحالف معهم، لتوجد ذلك الحكم وتضمن بقاءه وديمومته.
تلك هي مضامين الثّقافة السياسية العربية التي اعتاد عليها العقل السياسي - الاجتماعي العربي.
ولهذا، فانّ الفكاك منها بحراك، انتفاضة أو ثورة، لا يمكن أن يحدث إلاّ بصدام، كون القطيعة عميقة جدّا، وأصابت العلاقة بين الطّرفين بالعطب، أثر على الكيانين كليهما، ما يستدعي عمليةً إصلاحية أكثر عمقا، وعلاجا ثقيلا وطويلا، قد يبدأ باستئصال أصل ذلك الاستبداد من جذوره. ولعلّ ما يمكن أن يساعد على نجاح تلك العملية الجراحية الدقيقة تغيّر ظروف ميلاد تلك الثقافة السياسية بأداتها الرئيسة التي هي القطيعة.
نصل هنا، إلى مربط الفرس المتّصلة باسترجاع أصل العلاقة بين الكيانين، قصد بناء جسور الثقة أو ما يعرف بالعقد الاجتماعي الحقيقي، تلك الصفقة التي بموجبها يحافظ كلّ على حقه: الحاكم سلطة الحكم والطاعـــة والشعب سلطة الحقوق، والرضا على الحكام، معادلة متساوية الطرفين، كما يقال في لغة الرياضيات.
تلك المقاربة التّي على الجميع الاعتراف بأنّها المخرج من مأزق الشدّ والجذب بين الكيانين وسبيل الوصول إليها لا يجب أن يمرّ، حتما، بعد أن يكون الصراع قد تحوّل، بمنطق التّصعيد، إلى ما لا يُحمد عقباه، اختصارا للطريق، حيث أنّ بلدانا بعينها عرفت تلك القمّة من الصّراع، وانتهت إلى إقرار هدنةٍ، ولكن من دون تحويل راحة المقاتل إلى مواد لتلك الصفقة، حيث ينال كل حقـه، وتكون العملية مجرّد تدقيقٍ في محتوى برنامج للوصول إلى الحكم، نجاحا أو فشلا، باعتبار ذلك مبدأ للتداول على السّلطة في إطار من الاحترام المتبادل أو المواطنة الحقّة، وفق لغة التمدّن السياسي الحديـث والمعاصر.
هذا حلّ من الحلول المقترحة، وليس الحلّ الوحيد، لأنّه يترافق، في تجسيده صفقة العقد
الاجتماعي، مع منظومةٍ متنوّعة من الحقوق والواجبات ترسّخ عن طريق المواثيق بوجوب الاحترام، ثم الممارسة من الجميع، لتصبح، بالنتيجة، الثقافة السياسية المتبناة من الجميع، حكّاما ومحكومين في إطار نظامٍ من الفصل بين السّلطات. عندها، وعندها فقط، نكون قد ضمنّا انتقالا سلسا نحو التغيير الشامل لقواعد اللّعبة الديمقراطية التي تفيد الجميع، وطبعا في إطار الدائرة المعرفية الحضارية لكل الشّعوب، ومنها شعوبنا العربية.
طبعا، الحديث، هنا، لا يتعدّى بابا واحدا من أبواب التفكير في أصل الصراع ومقاربات الحل من دون حتى التفكير، مجرد التفكير، في جدوى أو عدم جدوى إدارته (الصراع) بأدوات التصعيد، أو بأخرى صلبة، كما أن الأمر لا يتعدّى، أيضا، اقتراح قراءةٍ متأنيةٍ لمسببات الصراع وبنيته، قصد التفكير، جميعا، في مقاربات تفكيكه، لإعادة بناء ثقافة سياسية جمعية ونفعية للجميع، لأننا، بداية ونهاية، مجبرون على العيش معا في كنف بلد واحد باختلافاتنا، بتعددية مشارب تفكيرنا وبمصالحنا المتضاربة في كيفية التعامل مع منظومة الحقوق ومعادلة الواجبات تحقيقا للمساواة أمام القانون.
لعلنا السطور أعلاه وضعت أصابعنا على "سبب جراحنا"، وعرفنا من أين جاءنا الاستبداد، أصل الاستبداد، سعيا إلى معالجته في إطار جمعي، تشاركي وتوافقي؟ ومن دون ذلك التّصعيد بأدواتٍ نراها ماثلة أمامنا بصور المآسي التي لا نريد استعادة حتى مجرد التفكير فيها، كما أنّ مهانتنا، بسبب ذلك كلّه، هو ما جعل الجميع يستأسد علينا، ونصبح في ذيل كل شيء، كل شيء حقا.. فإلى متى؟ وهل من مصغٍ؟ وهل من مداوٍ لجراحنا؟