"نقابوفوبيا"

"نقابوفوبيا"

04 نوفمبر 2018
+ الخط -
جرت العادة منذ بداية ثورة يناير على استدعاء القضايا المتطرفة عنوة إلى ديكور بائس لحلبة صراع يونانية الطراز، تطلق فيها الوحوش على المحارب، ويطلب منه أن يصرعها ليستمتع الملك وعلية القوم بافتراس الكواسر له، وهكذا يشربون نخب احتفاليتهم ثم ينصرفوا.

كانت أسئلة برامج التوك شو الموجهة "للإسلاميين"، أيهم الأقرب لقلبك؟ مسيحي مصري أم مسلم ماليزي؟، هل يجوز زواج البنت قبل أن تبلغ الثامنة عشرة من عمرها؟ هل إذا ما أمسك الإخوان الحكم سيسمحون بالبيكيني؟ هل التعدد لضرورة أم لمتعة؟ هل النقاب فرض أم فضل؟ وكثير من اللوذعيات التي لا داعي لها. فكلها تعيدنا للتساؤل الوجودي الكوني، هل خلقت البيضة أولا أم الدجاجة؟

إنها أسئلة تنفي ذهنك إلي جزر بعيدة؛ تفصلك ملايين الأميال عن أرض واقعك؛ تحبسك في اطار فكري ضيق تبذل فيه من روحك وأعصابك لتسوق الدلائل لتصل إلى أحكام قاطعة لا يراد أن يبت فيها.

إنهم يريدون أن يحبسوا عقلك في أقفاص كأقفاص القرود، يرونك فيها تتقافز كرها لفكرة أو دفاعا عنها، وهم يتضاحكون ويتسامرون. إنها تجارتهم الرائجة دائما وأبدا؛ فكلما أرادوا إبرام صفقة أو ارتكاب فاحشة سياسية، أشاروا لك أن انظر نحو العصفورة، وكم من مرة يا مسكين عاهدت نفسك ألا تنظر إليها ولم تجد نفسك إلا وأنت محملقا تتأملها وهي تفرد جناحيها في حرية تعجز أنت أن تحصل على مثلها.


مؤخرا وليس أولا وليس آخرا، ظهر الدكتور عطية مبروك ليتحدث عن المنتقبة فيصفها بأنها رجل لا أنوثة فيها وأنه يحزن لرؤيتها؛ وجاء من بعده الدكتور علاء الأسواني ليشبهها بقائد سيارة زجاجها معتم لا يستدل على شخصيته، رافضا إدراج اختيار المرأة هذا الزي تحت بند الحرية الشخصية، ناهيك عن مطالبة محمد أبو حامد وآمنة نصير بسن قانون يمنعه لأسباب أمنية.

كنت دائما أرى أن صدور قانون كهذا يحتم تجهيز المجتمع للفكرة وتغذيته بكراهية مقدسة، إلى أن يكون أول رافضيه هم الملتزمون والمحجبات، وعلى إثر ذلك يرفع حماة المجتمع عقيرتهم مطالبين باسقاطه، فينحاز لهم الجيش الحنون، ويطلب الرئيس لأول مرة أن ينزل الشعب ليفوضه ليواجه ارهاب النقاب المحتمل، وعليه تبدأ حملات مطاردة المنتقبات واجبارهن على خلعه.

حقيقة لا أرى أزمة حقيقية في أمر النقاب، فحتى الأزهر قال عنه أنه أمر مباح، بل إنه يصل إلى الضرورة إن ارتأت المرأة ذلك ، وأما عن الخوف من الإرهاب والإرهابيين فتلك مشكلة جهاز أمني مشغول بالقبض على مواطنين أبرياء وبناء سجون لهم.

وتجد أسئلة من نوع غريب على مواقع التواصل الاجتماعي فضلا عن وصف المنتقبات بـ"الكائنات" على اعتبار أنهن ذوي رءوس كبيرة خضراء نزلن من كوكب المريخ يقرؤون أهل الأرض السلام ومن ثم يلتهمونهم! من هذه الأسئلة، لماذا يلتقطون صورا؟! وأجيب؟ ولماذا لا يفعلن؟! أليس من الممكن أنهن يلتقطن صورا لنفس أسبابك! ثم ندخل في دائرة "الفتي" ، فتجد من يقول أنه يرى أن النقاب يجب على الجميلة فقط، و بأنه فضل وليس فرض، وأن المرأة لابد أن تكون على قدره لترتديه!

وبعدها ينتقل الأمر ليدخل محرقة النم المجتمعي، ففلانة سيئة السمعة وتتخفى خلف النقاب، وفلانة خاطفة أطفال مجرمة، وفلانة متسولة، وفلانة تضحك ضحكة رقيعة، وفلانة تلبس عباءة ضيقة، وفلانة تكتحل، وفلانة تضع طلاء أظافر، وفلانة لا ترتدي القفاز، وفلانة لا ترتدي شرابا، وفلانة تنصب نفسها داعية، وفلانة ضمنت لنفسها الجنة، وفلانة تلبسه لأنها كانت تعيش بالسعودية، وفلانة أجبرها زوجها على لبسه وتعيش مأساة عنيفة، وفلانة يعيقها نقابها عن التفاهم، وفلانة هجرها زوجها بسببه، وفلانة لديها كبت، وفلانة مريضة نفسيا؛ نوع من الحوارات التي تضع المنتقبة دون غيرها إما في محل سخرية أو في موضع شبهة أو خلف قضبان اتهام.

بعيدا عن الفتاوى، وبعيدا عن الأساس الديني للنقاب، فهذا أمر قد نتفق أو نختلف حوله؛ فلنعتبره نظام لبس ارتضته المرأة باختيارها الحر؛ أم أن المجتمع يعطيها حق الخلع فق؟! لماذا على المجتمع أن يقرر لها ما يجب أن تلبس ؟! لماذا عليه أن يزيد من الضغوط عليها في مجتمع لا يحدث معطياته أبدا؟

إن بداخل كل منتقبة شخصية حرة تماما، لا تعجب! فالمنتقبات ككل النساء، منهن الطيبات ومنهن الخبيثات وبينهن درجات، تماما كالمحجبة والمختمرة والمحتشمة وغيرهن اللاتي ستجد بينهن المجرمات والفاضلات؛ غير أن مجتمعنا المتدين بطبعه لا يعلي من قدر امرأة منتقبة ويكتفي بأن يضعها في صورة جارية السلطان.

ترى متى يمكن أن نحرر عقولنا بعيدا عما يراد لنا أن نعتقده؟ وأن ننضج وينمو فكرنا لنرى الأمور كما هي، من منظورنا نحن دون أن يتلاعب بنا صناع السياسة وآخرين يتصنعون دفاعا مزيفا عن الحريات؟ لنلتفت إلى ما هو أهم وأجدى، لنبحث عن حقوقنا المنهوبة.

دلالات

7048540C-B765-4399-A999-CB7869F215E2
رانيا مصطفى
باحثة مهتمة بالتاريخ والسياسة والأدب والعلوم الإنسانية. تقول: كل فكرة فى مقال ماهى إلا رسالة فى زجاجة ملقاة فى بحر تتقاذفها أمواج الأيام حتى تصل إلى من يهمه الأمر