"نداء تونس" والسبسي: حزب حاكم ورئيس جمهورية بخطاب معارض

"نداء تونس" والسبسي: حزب حاكم ورئيس جمهورية بخطاب معارض

14 أكتوبر 2018
دعا ماكرون السبسي لعدم الاستسلام (لودوفيك مارين/فرانس برس)
+ الخط -
كل مواقف حركة نداء تونس الأخيرة توحي بأنه أصبح حزباً معارضاً، خصوصاً عندما يعتبر، في بيان رسمي، أن "الحكومة الحالية هي حكومة حركة النهضة، وعليه فإنه غير معني بدعمها سياسياً، وأن التوافق الذي تم العمل به بين رئيس الجمهورية (الباجي قائد السبسي) وحزب حركة نداء تونس من جهة وحركة النهضة من جهة أخرى، منذ انتخابات 2014، يعتبر منتهياً". ولا يفصل البيان بين "نداء تونس" والسبسي بأي شكل، بل يربط بينهما بشكل مباشر بخصوص إنهاء التوافق والتموضع في مقابل هذه الحكومة، حكومة "النهضة" ويوسف الشاهد وفق الأدبيات المستجدة لحزب رئيس الجمهورية. ويؤكد البيان إياه أن "النداء" غير معني بدعم الحكومة سياسياً، ما يعني أنه والرئيس تحولا إلى المعارضة فعلياً. غير أن ما لم يقله بيان "النداء" والسبسي هو ما مصير وزراء النداء في الحكومة وهل سيدعوهم الرئيس إلى الاستقالة؟ وإن فعل فهل سيستجيبون أم سيكون موقفهم تماماً كموقف وزراء "آفاق تونس" الذين أختاروا البقاء في الحكومة والابتعاد عن الحزب؟

لا شك في أن بيان "نداء تونس"، الذي لاقى انتقادات واسعة بسبب التداخل بين الحزب والدولة، وقاد إلى استقالة مدير الديوان الرئاسي، سليم العزابي، صدر بموافقة السبسي نفسه الذي يدير هذه المرحلة بأدق تفاصيلها، ولذلك جاء البيان في دائرة الضغط على "النهضة" من دون قطع كل الجسور معها. فقد حمل إشارة مخفية إلى أن الرئيس "أكد أن العلاقة الشخصية التي تربطه مع (زعيم حركة النهضة) راشد الغنوشي لا علاقة لها بالموقف الواضح من حركة النهضة". ويعلم الجميع في تونس أن ما يسمى بالتوافق بني على أساس هذه العلاقة الشخصية، المتواصلة بحسب السبسي، ولم يكن أبداً توافقاً بين حزبين، بل إن الغنوشي دخل في خلافات عديدة مع قيادات من حركته بسبب اتفاقاتها مع السبسي في أكثر من ملف، وفقد السبسي بدوره قيادات كثيرة بسبب توافقه مع الغنوشي ودعمه لحركة النهضة في أكثر من موضع، خصوصاً في المحافل الدولية. ويبدو أن تحركات السبسي للضغط على "النهضة" ستبدأ من هنا، فقد جاءت كلمات الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، في مؤتمر الفرنكوفونية، أخيراً، في شكل رسالة واضحة إلى "النهضة"، عليها أن تستوعبها بسرعة. وخاطب ماكرون السبسي، في كلام أدبي خرج عن المألوف، قائلاً "هذا الرئيس شجاع، انتصر للمرأة والحرية والمساواة حين قال آخرون إن هذا غير ممكن"، داعياً إياه لعدم الاستسلام والتراجع وعدم الرضوخ لصعود المد الظلامي. وقال ماكرون "لا تستسلموا، لا تستسلموا. سنكون دائماً معكم، وسنستمر بالوقوف إلى جانبكم". ولم يكتف الرئيس الفرنسي بذلك، مضيفاً "أنتم قادمون من بلد نال استقلاله بفضل رئيس عظيم (في إشارة إلى الحبيب بورقيبة) قام بتعليم النساء والرجال والبنات الصغار. أنتم قادمون من بلد يعد مثالاً في الفضاء الفرنكوفوني وفي الفضاء الأفريقي كان ولا يزال محل فخر لنا".

وتعتبر هذه الكلمات رسالة مباشرة إلى "النهضة"، وتحذيراً واضحاً من الرئيس الفرنسي، الذي سبق له، في فبراير/شباط الماضي، التأكيد على عدم التعارض بين الإسلام والديمقراطية والتنويه بالتجربة التونسية التي قامت على التوافق، ما دفع المتحدث باسم حركة النهضة وقتها، عماد الخميري، إلى التصريح بأن "الحركة تعتبر خطاب الرئيس الفرنسي أكثر من إيجابي، لأنه ثمن فيه التجربة التونسية والانتقال الديمقراطي وتجربة التوافق والدستور، وما اعتبره نجاح الاستثناء التونسي في العالم العربي والإسلامي المتعلق بعلاقة الإسلام والديمقراطية". وأضاف الخميري، في تصريح إذاعي في حينها، أن "تونس في حاجة إلى مثل هذا الدعم والتثمين، خصوصاً بعد محاولة بعض وسائل التواصل الخارجية تشويه صورة تونس". لكن ماكرون يؤكد للجميع أن مخاطبه الأول في تونس يبقى السبسي، وأنه معياره الأساسي في تقييم بقية حلفائه، ما يمكن أن يثير قلقاً لدى "النهضة"، الحساسة جداً للتقييمات الإقليمية والدولية، والتي يبدو أن الضغوط انهالت عليها مرة واحدة، من الداخل والخارج، خصوصاً بعد عودة الاتهامات الأمنية، التي أثارتها "الجبهة الشعبية" حول "النهضة"، في قضية اغتيال الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي، ودعوات أحزاب أخرى كثيرة، بينها "النداء"، لأخذ هذه الاتهامات محمل الجد والتحقيق فيها.

ويبدو المشهد مستعيداً لوقائع سنة 2013، غير أن متغيرات كثيرة طرأت منذ ذلك الوقت، فحركة "النهضة" حاولت إقناع المجتمع الدولي بأنها فصلت بين الدعوي والسياسي، ولقيت تجاوباً من بعض الدوائر الدولية، بالإضافة إلى أن تحالفها مع العلمانيين لم ينفرط وإنما تغير عنوانه فقط، وسيكون على دوائر القرار الدولي أن تحدد ما بين السبسي والشاهد، وأن توضح رهانها على أحدهما. ويبدو الموقف الفرنسي مضطرباً في هذا الخصوص، فقد سبق للسفير الفرنسي في تونس، أوليفيي بوافر دارفور، إثر اجتماع الشاهد بسفراء مجموعة الدول السبع الكبار المعتمدين في تونس وسفير الاتحاد الأوروبي، باتريس برغاميني، أن أشاد بالمؤشرات الإيجابية المسجّلة على الصعيد الاقتصادي، مؤكّداً أنّها مطمئنة، ومحفّزة على عودة النمو والاستثمار. وقال دارفور "ثقتنا بالغة في هذه الحكومة لقيادة وإنجاح مجمل الإصلاحات التي وضعتها، بما يجعل من تونس نموذجاً مثالياً يحتذى في المنطقة، وفرنسا ستبقى داعماً دائماً لتونس".

ولقي التصريح موجة استهجان من بعض الشخصيات الحزبية والنقابية، تماماً كما تصريح ماكرون، إذ اعتبره الأمين العام للحزب الجمهوري، عصام الشابي، تدخلاً فرنسياً في الشؤون الداخلية التونسية. وكتب الشابي، على صفحته على "فيسبوك"، "نالت تونس استقلالها عن فرنسا سنة 1956 وعادت السيادة للشعب بفضل ثورة الحرية والكرامة ولم يعد مقبولاً لأي كان، وتحت أي غطاء كان، إقحام نفسه في الشأن الداخلي التونسي". وأضاف الشابي أن "كلمة الرئيس الفرنسي ماكرون في قمة الفرنكوفونية وتدخله الفظ في الأوضاع الداخلية لتونس، في ظل أزمة خانقة وعلى أبواب سنة انتخابية، مرفوض بكل المقاييس الديمقراطية والوطنية. خلافاتنا، وإن احتدت نحتكم للدستور لحلها، ونعود إلى الشعب لحسمها ولا نسمح لأي جهة أجنبية التدخل فيها. شعارنا العزة لتونس والكرامة للمواطن". وتوقع كثيرون أن يستعمل السبسي كل أسلحته المتاحة للضغط على "النهضة" وكسر العقد الجديد الذي يربطها بالشاهد، لأنها تحولت إلى حجر الزاوية في المعادلة السياسية التونسية. وبرغم أن هذه "الشراكة" مع الشاهد كما تسميها "النهضة"، لم تتأكد بوضوح حتى الآن، فإن اختبار صمودها أمام كل هذه الضغوط سيتبين سريعاً، مع أن آخر الأخبار تؤكد أن اجتماع الغنوشي بالشاهد منذ أيام كان إيجابياً، لكن المعادلة تتحدد بكل هذه العناصر الداخلية والخارجية، وهشاشتها معلومة من الجميع، ما يجعلها قابلة للتغير مع أول ريح قوية.