"مولد أمّة": صرخة بيضاء وأخرى سوداء

"مولد أمّة": صرخة بيضاء وأخرى سوداء

16 يونيو 2020
وُلد "مولد أمة" نسخة 2016، بهدف التصحيح والمراجعة(Getty)
+ الخط -
أسال "مولد أمّة" (The Birth of a Nation (1915، على مرّ العقود، حبراً كثيراً، وكان محلّ أخذٍ وردّ بين المنتصرين له، كذروة سينمائية لا تُضاهى، والمندّدين به، كعمل يمجّد تفوّق العرق الأبيض. الفيلم أنجزه ديفيد ورك غريفيث، المخرج الذي يُعتَبر أحد الآباء الروحيين لتطوير اللغة السينمائية من خلال المونتاج، وسيّد تعاقب المشهديات وتسلسلها في إطار الدراما. لأعوام، تربّع الفيلم على قوائم أفضل الأفلام إطلاقاً. لكنْ، مع التغيير والوعي الحاصلين في المجتمعات الغربية، خصوصاً في ما يتّصل بدور الأقليات فيها، وبعد انتزاع الأميركيين الأفارقة حقوقهم، وصولاً إلى الحملات التي تهدف إلى تشكيل وجدان جديد، يرى في العنصرية آفة، وفي الإقصاء شراً، بدأت آراء أخرى تلوح في الأفق، اعتبرت هذه التحفة عملاً عنصرياً يجب استبعاده.

"مولد أمة" فيلمٌ صامت، مقتبس من رواية لتوماس ديكسون، تنحاز بوضوح إلى التمييز العنصري، الذي كان قائماً في بعض الولايات الأميركية. تدور أحداثه في الجنوب، خلال الحرب الأهلية الأميركية (1861 ـ 1865)، ويحكي عن تراجع أحوال عائلة من الجنوبيين. في أكثر من ثلاث ساعات، يُقارب غريفيث الأحداث التي وقعت من وجهة نظره الخاصة، متماهياً مع نظرة ديكسون، بصفته من أهل الجنوب، المنطقة المناصرة للعبودية.

هناك تحليلات عدّة نشأت حول الفيلم، لتبرئته من عنصريته، أو لتخفيفها، أو لإدانتها. أحدها إلى جانبه، بحجّة أنّه ينطوي على عناصر أوتوبيوغرافية، وبالتالي فإنّ غريفيث، الذي هو نفسه ابن جندي خاض الحرب ووقف ضد إلغاء العبودية، لم يُدرك أنّه يُنجز عملاً عنصرياً. كانت نيّته حسنة، لكنّه لا يملك المسافة الكافية لمقاربة القضية بموضوعية. أما المناهضون للفيلم، فيقولون إنّه أضرّ كثيراً بالعلاقات بين الأعراق، وناصر منظمة الـ"كو كلوكس كلان" العنصرية.
أياً يكن، على المُشاهد أنْ يعي الرسالة التي ينطوي عليها الفيلم، بعد أكثر من 100 عام على إنجازه، وفي الوقت نفسه، من دون التقليل من أهميته كفتح سينمائي، إذْ يتوجّب عليه أنْ يراه أيضاً من منظور جمالي.
ولكنْ، ماذا في الفيلم؟ يعرّفنا غريفيث على القضية بالشكل التالي: "الإتيان بالأفارقة إلى أميركا زرع أولى بذور الانقسام". هذه الإشكالية، التي يطرحها في الافتتاحية، مكتوبة على لوحة كانت تُستخدم في الأفلام الصامتة. البعض يعتبر أنّ غريفيث، أحياناً كثيرة، يلوم الضحية، أي السود، بينما يرى آخرون أنّ ما يفعله هو وصف ظاهرة اقتصادية، كانت لها تداعيات سياسية كبيرة، وُلدت من رحمها الحرب الأهلية. في الحقيقة، يقول الفيلم الشيء وعكسه غالباً، ويصعب عليه اتّخاذ مواقف صارمة من كلّ شيء. لكنْ، في الوقت نفسه، لا يدين فعل العبودية، وهو مصنوع بمعايير زمن غابر.
العلاقات بين الأعراق ليست موضوعه الرئيسي. "مولد أمة" عن الحرب والرعب المرتبط بهما، وعن تداعياتهما على المهزومين، أكثر من كونه أيّ شيء آخر. مما قاله غريفيث، ويكشف عن نيّاته: "إذا استطعنا في هذا الفيلم أنْ ننقل إلى الأذهان خراب الحرب حتى النهاية، ونُري مدى بغضها، فإنّ هذا الجهد لن يكون هباءً".
الدرس الأهم في الفيلم، إنْ كان ملحمة أو تراجيديا، هو الرأفة بالمهزومين. غريفيث يقوم بتأويل صوفي وأسطوري لمعاناة الجنوبيين، قائلاً إنّ الأمّة ولدت بسبب تضحياتهم. هذا الجانب المسالم من "مولد أمة"، لا يأخذه مَن لا يرى فيه إلا تمجيداً للـ"كو كلوكس كلان"، الذي استخدمها الفيلم كدعاية، بحسب المخرج سبايك لي. جمالياً، نحن حيال تحفة في المستويات كلّها، دفعت بالموارد السينمائية كلّها لفنّ وليد إلى أقصاها، لكنْ من أجل قضية تمّ تسييسها. إلا أنّ الفيلم، الذي له هدف بالطبع، بقدر ما كان مُنحازاً، أثار النقاش حول حقوق السود في أميركا، وأوجد تضامناً شعبياً كبيراً، لا سيما بعد عرضه الأول في البيت الأبيض.
عام 2016، قرر الممثّل والمخرج نات باركر تقديم نسخته الخاصة عن "مولد أمة"، فأنجز فيلماً بالعنوان نفسه، عرف نجاحاً كبيراً عند عرضه في "مهرجان ساندانس". يقول باركر: "غريفيث أخذنا في الطريق الخطأ. بصفتي فنّاناً ورجلاً أسود، أردتُ استعادة هذه الحكاية، على نحو يمنعنا في المستقبل من التفكير بالنسخة القديمة. فيلم غريفيث دعاية، أما فيلمي فينطلق من فعل المقاومة والإصرار. نرى مولد أمة جديدة. أمة قرّرت الانكباب على جراحها بهدف تضميدها والمضي إلى الأمام".

هكذا وُلد "مولد أمة" نسخة 2016، بهدف التصحيح والمراجعة التاريخية. إنّه عمل لا يخلو من القسوة، عولج بصرامة، ويذهب إلى الهدف مباشرة من دون مواربة. نصفه الأول وصف لظروف عيش السود في زمن الفصل العنصري، بينما يروي نصفه الثاني ما سيترتّب على هذا الفصل من عواقب وخيمة. هناك انتفاضة يقودها نات ترنر (يؤدّي دوره نات باركر نفسه)، العبد الذي يعمل عند أحد الأثرياء البيض، لتحرير أبناء جلدته من العبودية، بعد أعوام من المعاناة والتمييز والمهانة.
الموضوع هنا واضح وصريح تماماً: العنصرية في الولايات المتحدة، في القرن التاسع عشر، عندما كانت العبودية لا تزال في أوجها، قبل ان يُسقطها الرئيس أبراهام لينكولن. باركر، الذي كتب السيناريو، لم ينجز "ريميكا" (نسخة أخرى)، بالمعنى التقليدي للكلمة، بل أراد طرح رؤية جديدة ومغايرة لتمرّد السود عام 1931. رغم جودته، لم يُلق بظلاله على تحفة غريفيث، أقلّه لناحية الإيقاع والأجواء والإخراج. لكنّه يبقى عملاً ذا تأثير مباشر، وهو ثمرة زمنه ونتيجة حتمية للشعار الذي يرفعه المجتمع المعاصر، وفي مقدّمها الاعتراف بأخطاء الماضي، وإسقاط رموز حقبة العبودية، لا في السينما فقط، بل في التماثيل التي تجسّد تجّار الرقيق، الموزّعة في ساحات عامة كثيرة.
نسخة باركر أضاءت على كلّ ما لم نرَه عند غريفيث: إنّه صرخة في وجه الظلم والتنكيل، اللذين تعرّض لهما الأفارقة الأميركيون أعواماً طويلة.

المساهمون