"ملتقى الكلمات" لحارث سيلايجيتش: الريح تنادي الأطفال بأسمائهم

"ملتقى الكلمات" لحارث سيلايجيتش: الريح تنادي الأطفال بأسمائهم

25 يوليو 2020
(حارث سيلايجيتش/ Getty)
+ الخط -

بعد أن يمرّ القارئُ ببضع قصائد من مجموعة "ملتقى الكلمات" لحارث سيلايجيتش، الرئيس الأسبق لدولة البوسنة والهرسك، المترجمة إلى العربية حديثاً (2020)، يتلاشى الانطباع الأوّلُ بأنه أمام شعر سياسي من النمط المباشر الغارق في التعليق على الأحداث، المعتم منها والمضيء، ويبدأ بتلمُّس طريقه إلى عالم الشعر حقّاً، وليس إلى عالم رجل سياسيّ يكتب ويرسم كما يكتب ويرسم الشاعر. ومن الممكن القول أيضاً إنَّ هذه المجموعة الصادرة عن دار "الآن ناشرون وموزعون" الأردنية، بالتعاون مع "معهد الدراسات الشرقية في بريشتينا"، تأخذ القارئ العربي إلى عالم شعري لم يسبق أن تعرّف عليه.

البوسنة والهرسك، أو بوسنة هرسكوفينيا كما تُعرَف باللفظ اللاتيني، دخلت عالم المعرفة العربية حديثاً كبلد خرّبه وكاد أن يمحوه تمزيقُ وطن اتحادي مستقر كان جزءاً منه هو يوغوسلافيا، أي بلد السلاف الجنوبيّين. قبل ذلك لم تعرف العربية وجهه الثقافي، والشعري منه بخاصة، إلّا عبر ترجمة نادرة نُشرت في ستينيات القرن العشرين لرواية "جسر على نهر ألدرينا" للبوسني إيفو أندريتش غربي الهوى والصبابة، الفائز بـ جائزة نوبل عام 1961.

إذاً هذه هي المرّة الأولى، على حد علمنا، التي يلتقي فيها القرّاء العرب بشاعر من ذلك البلد في مجموعة شعرية كاملة، إذا استثنينا اللمحات القليلة التي ربما صادفناها في مجلات ومواقع الإنترنت، كأن نقرأ قصيدة للشاعرة بيسيرا أليكاديتش (1939)، أو الشاعر غوران سيميتش (1952)، وكلاهما يقارب عالم الشعر كما سنرى بالطريقة نفسها التي يقاربه بها حارث سيلايجتش (ويمكن أيضاً ذكر "مختارات من الشعر الألباني المعاصر" بترجمة محمد موفاكو الأرناؤوط الصادر عام 1981).

متأخّرةً عرفت العربية وجه البلقان الثقافي والشعري

يقدّم لهذه المجموعة ثلاثة كتّاب، ولكن المترجم إسماعيل أبو البندورة اختار ترجمة مقدّمتين، الأولى للمفكر البوسني أسعد دوراكوفيتش، والثانية للباحث والمؤرخ الكوسوفيالسوري محمد موفاكو الأرناؤوط. يقول الأوّل إنَّ قراءة شعر هذه المجموعة يجري على مستويين؛ مستوى يتوخّى إنقاذ العالم من نفسه بطريقة جمالية، ومستوى الجهد المميّز في الدفاع عن اكتمال العالم ثقافياً وأخلاقياً وعاطفياً.

ويقول الثاني إنّ صاحب هذه المجموعة شاعر يحمل تجربة تتجاوز حدود البوسنة إلى حدود العالم. أي أنَّ الاثنين يستديران عن وجه الرجل السياسي ويشيران إلى ما يتجاوزه، إلى التعامل الجمالي مع العالم، وإلى تجاوز حدود الهوية المحلية، ليس بسبب حضور فلسطين بقوّة في هذه المجموعة كما يقول المترجم، أي بسبب سياسي فحسب، بل بسبب النزعة الفلسفية التي تشفّ عنها صور من الواضح أنها أيقونات هذه المجموعة الشعرية، أي بنوع من أسلوب شعري يفتح أكثر من أفق وفي أكثر من اتجاه يخيّل للقارئ للوهلة الأولى أنه إما هذا أو ذاك، فيكتشف بعد أن يواصل القراءة، وبعد أن يعلّق توقّعه، أن الأمر مختلف، فهو هذا وذاك ومعه أشياء أُخرى لا تتوقّف عن التمرئي تحت لغة الصورة الشفّافة. 

ومع أن المُقدّمَين والمترجِم لم يذكُر أيٌّ منهم شيئاً عن خصائص اللغة البوسنية التي تُرجمت عنها قصائد هذه المجموعة، وعلاقتها باللغتين الصربية والكرواتية المتداولتين في البوسنة على قدم المساواة معها، إلّا أننا نلمح منذ البداية، منذ قصيدة "إلى الأمهات"، أن الشاعر يستخدم لغة تميل إلى الإيجاز، إلى ما يشبه تقطيع المشهد إلى صور ثم المجاورة بينها. فهل هذه السمة من خصائص اللغة البوسنية أم هي "تناص" شعري مع أسلوب التصويريّين الأميركيّين ساعدت لغة البوسنة على تحقيقه؟ 

أسلوب شعري يفتح أكثر من أفق وفي أكثر من اتجاه

أياً كان الأمر، لن يفاجئنا أن نجد أنفسنا أمام هذا النمط الشرقي من التصوير الذي اختص به شعراء قصيدة الهايكو اليابانية والتي نهضت على أساسها قصيدة التصويريّين الأميركيّين لفترة من الزمن:

"نجومٌ تتلألأ في الليل
لم تختبئ ولا واحدة! 
النبعُ وحده يقفز عن الحجارة
لا أحدَ هناك يأخذ بيده
وتنمو أعشابٌ غير مداسة!

الأرضُ التي تحملنا على ظهرها
تمضي في طريقها
يومٌ جديد 
أصفادٌ قديمة 
تبحث عن عظامٍ لتدفن!".

الصورة
ملتقى الكلمات لـ حارث سيلايجيتش - القسم الثقافي

أغلب الظنّ أن هذا هو ما سمّاه أسعد دوراكوفيتش في مقدّمته "صياغة العالم بالصور الشعرية، حتى حين يكون هذا العالم غير مألوف ولا يستحق هذا". وعندنا أن هذا المنحى الشعري هو الذي ينقذ الشاعر من السقوط في الخطابية السياسية أو النزعة العاطفية المبتذلة. وصياغة العالم حين يكون مرعباً ومظلماً بالصور لا تعني تخيله بل جعله أشدّ واقعية مثلما تفعل الشاعرة بيسيرا التي أشرنا إليها آنفاً:

"في أحلام نسائنا
الجزرة هي مجرّد جزرة
في أحلام الأطفال 
السفّاحون هم سفّاحون بالفعل
فلا تبحثوا في كتب تفسير الأحلام 
لتأويل أحلامنا
لا تخوم عندنا بين الأحلام والحقيقة!"

ومثلما يفعل الشاعر غوران:

"إنه يوم الأحد يا ماري لو
وأنا الآن متعب من الحديث مع أسلافٍ
مختبئين في السلّة المليئة 
بثياب عملي المتّسخة". 

وعلى غرار هذه الطريقة في صياغة العالم، ولكن بشفافية أعمق، يذهب حارث سيلايجتش إلى فلسطين في قصيدة "متى يسقط الجدار"، ونسمع فتاة تسأل أمّها:

"لماذا تساقطت الأوراق؟
وإلى أين ذهبت الأزهار؟ 
لماذا لم نعد نرى شجر الزيتون؟".

فتجيب الأم ببساطة:
"تسقط الأوراق في الخريف 
والأزهار ستتفتح أجمل من ذي قبل
لكنها لا تعرف لماذا 
ينمو الجدار في البستان".

جاء في مقدّمة محمد موفاكو الأرناؤوط أن عنوان هذه المجموعة في اللغة البوسنية، أي "ساريتشا"، يعني ملتقى الأنهار، ويعني ملتقى الكلمات أيضاً. بالطبع من الصعب الجمع بين هذين المعنيين في كلمة واحدة في اللغة العربية، إلّا أن هذا الجمع يتحقّق في الصورة الشعرية التي هي مجمع المعنيَين أو مجمع النهرَين بعفوية بالغة في أي لغة كانت، فلا يستطيع القارئ تمييز النهر من الكلمة أو العكس. فمن منهما مداد الآخر؟ ومن منهما ينفد قبل الآخر خلال قراءة هذه السطور من قصيدة "قصر الحمراء":

"قفي ودَعي الماءَ يلمس وجهك 
بتلك القطراتِ
تحملك تجاهي 
شمسُ الأندلس".

أو هذه السطور من قصيدة "عرّافة غجرية":

"قرب ميدان قرطبة 
بمحاذاة الجامع الكبير
عرّافة غجرية".

أعني أن هذه الصور "الواقعية" الصلبة، بهذا الاختزال والتشظّي الظاهري، تضفو على كونها واقعية، وتحوّل العالم، أو تنقذه من عتمته ولا معناه، وأحياناً من وحشيته. في قصيدة "عرّافة غجرية"، على سبيل المثال، تتشكّل صورة من ثلاثة مشاهد؛ ميدان قرطبة والجامع الكبير وعرّافة غجرية، ولكن هذا التشكيل لا يُقرأ بمعزل عن إيحاءاتِ الكلمات الثلاث المتلاقية كما تلتقي الأنهار، فقرطبة، لفظاً ومعنى، مشهدٌ أندلسي تاريخي يكمله الجامع، وتضفي عليه العرّافة الغجرية مسحة غموض محبّب يجري في النفس مجرى النهر ذاته. ما الذي يثيره هذا التشكيل؟ الجواب يتوقّف على كل قارئ على حدة، فهو حرٌّ في أن يشعر بما يحتمل أن يشعر به على خلفية علاقته بهذه الكلمات الثلاث في تلاقيها. ويمكن قول الأمر نفسه عن القطرات المائية التي تحمل شمسُ الأندلس صاحبتها باتجاه الشاعر. 

على أنّ الشاعر يستبدل التأملَ الفكري بأيقونةِ الصورة في قصائد أخرى مثل قصيدة "عابر بجانب الزمن"، أو بجوار الزمن إذا أردنا الدقّة، وقصيدة "أيجفّ ملتقى الكلمات" وقصيدة "تضيع منّي الطريق". في قصيدة "العابر" نجده يسأل بعد خطاب موجّه إلى الإنسان بشكل عام، ذلك الذي يلحظ الماضي بطرف عين بين صور متداخلة حيث تمر الحضارات:

"أنت جزءٌ من الوجود
فأي جزء من كيانك يدرك
كلّية الوجود؟".

ويطفو في القصيدة الثانية بعفوية بالغة معنى العنوان الآخر، أي تلاقي الأنهار، فنقرأ:

"إذا تعجلتَ 
مروراً قرب ذاتك
خوفاً من العزلة الصماء 
ستجد حياة في الصحراء
تجعلك تغمض عينيك".

وفي قصيدة "تضيع مني الطريق" يقول لنا إنه يسمع عن بلاد مجهولة يغنّي فيها الناسُ في الطرقات، ويهبون البحرَ أغنية الرجوع، وتتذكّر فيها الصحراء العارية رائحةَ الأشجار، وتنادي الريحُ الأطفال بأسمائهم، فتتوارد على ذهن القارئ ظلالُ اشتياق لمعرفة كُنه هذه البلاد المجهولة مع توالي السطور. ويتواصل هذا التوقُ الغامض لمعرفة ماذا سيفعل الشاعر، فنجده يقول إذا ذهبت إلى تلك البلاد سأعرف كيف هي رائحة ظلال بعد الظهر، ولكنه يسأل:

"أين ذهبت لحظات منتصف الليل
من سيظلّل أسرّة الأطفال
إذا كان لا أحد يسمع 
دعوة الطير الضائع؟
إذا لم أسمع الأغنية 
لن اسأل عن الغائب
أهو الطريق أم الناس؟".

وسيتواصل هذا الغموضُ حتى السطر الأخير، ولن يعرف القارئُ أيَّ بلاد هذه التي يتحدّث عنها الشاعر، لأنها مجهولة حتى بالنسبة إليه، إلّا من هذه التلميحات إلى ما هو غائب، وحيرته حين لا يعرف ما الذي يغيب، أهو الطريق أم الناس. أي أهو المذهب أم الغاية؟ 

هذا سؤال فلسفي أمام سرّ الوجود ذاته تختصره هذه القصيدة الجميلة تحت عنوان "انتظار"، ويا له من انتظار! 

"إنه وراء الحياة:
على الطريق نفسه
داعبتُ الحياة 
رغبت في اللحاق بها
لكن الحياة غذّت الخطى
لكي تسبقني
أقف الآن وحيداً 
وراء الحياة 
من مكان ما
حيث كانت الطريق
وأنتظر... ".


بطاقة

وُلد حارث سيلايجيتش في سراييفو عام 1945، ودرس اللغة العربية في "جامعة البيضاء" بليبيا وتخرّج منها 1971، كما حصل على الماجستير من الجامعة نفسها، وعلى الدكتوراه من جامعة بريشتينا في كوسوفو. كان من مؤسّسي "حزب العمل الديمقراطي" في البوسنة التي عُيّن وزيراً لخارجيتها بعد انفصالها عن يوغسلافيا (1991 - 1993)، ثمّ رئيساً للحكومة خلال أصعب مرحلة مرّت بها البلاد؛ حرب البوسنة (1992 و1995).

في تقديمه يقول أسعد دوراكوفيتش: "لقد أصبح معروفاً ليس في البوسنة وحدها، وإنما على صعيد العالم بأكمله بسبب البوسنة، وهو الآن يخاطب مثل هذا العالم في الحقيقة بمجموعة شعرية. لذا ينبغي الافتراض أنَّ العديد من القرّاء سوف يسألون: من أين لـ سيلايجيتش بمجموعة شعرية؟ وأفترض أن القليل من الناس يعرفون أن سيلايجيتش، ومنذ فترة بعيدة، أقام داخل مملكة الشعر، بعيداً عن السياسة، ليس بصفته قارئاً مواظباً وإنما بصفته مبدعاً دائماً ومتمعّناً".

آداب وفنون
التحديثات الحية

المساهمون