"معالم الفكر العربي": في تفسير خمود الرغبة في العِلم

"معالم الفكر العربي": في تفسير خمود الرغبة في العِلم

18 يونيو 2020
المدرسة التي دَرَسَ فيها ابن خلدون، تونس (العربي الجديد)
+ الخط -

تختص زاوية "صدر قديماً"، التي أطلقها القسم الثقافي لصحيفة وموقع "العربي الجديد" في شباط/فبراير 2017، بتقديم قراءات في كتب عربية مرّت عقود على إصدارها وما زالت تنبض براهنية تستدعي قراءتها واستعادة أصحابها.


في عام 1954، أصدر أستاذ الأدب العربي والفكر الإسلامي في "الجامعة الأميركية" ببيروت، كمال اليازجي، كتاباً بعنوان "معالم الفكر العربي"، وفي طبعات لاحقة (وصلت إلى الخامسة في 1974) طرأ تغيير طفيف في العنوان فأصبح "معالم الفكر العربي في العصر الوسيط". يحمل هذا التحديد هدفاً مُضْمَراً، وهو الإشارة إلى أن المساهمة العربية في المدوّنة الفكرية العالمية قد توقّفت مع العصر الوسيط (نهاية القرن الخامس عشر)، وأما ما اعتبر "فكراً" ضمن عصر النهضة العربية بين القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين فلم يزد عن ملاحقة لما وصل له مفكّرو الغرب، ولعلّ الأمر كذلك إلى أيامنا.

تصلنا هذه الفكرة منذ المقدمة، والتي يُضيء فيها اليازجي مناخاً عاماً كانت تعيشه الثقافة العربية القديمة، وضمنياً نفهم أنه لم يعد متوفراً، فيقول مثلاً في سياق الحديث عن العصر العباسي: "كانت الرغبة في طلب العلم ظاهرة عامة في أوساط المجتمع، لم يلههم عنه غِنى، ولا أقعدهم عن السعي إليه فقر". كما يتناول اليازجي ظاهرة "الرحلة في طلب العلم" كمغامرة ساهمت في بناء شخصيات وعقول أهل المعرفة آنذاك، من دون أن ننسى دورها في ربط بلاد العالم الإسلامي.

هذه الصورة العامة أتاحت تفسير تحوّلات العملية التعليمية في الحضارة الإسلامية، فبعد أن كانت في عصر النبيّ وصحابته عملاً لوجه الله ظهرت بالتدريج طبقة من المعلّمين المحترفين اقتضتها كثرة الإقبال على العلم وتنوّع مواضيعه وخروجه من دائرة الدينيّ إلى معارف الحياة المتنوعة وصولاً إلى العصر العباسي الذي بات فيه احتراف العلم أمراً دارجاً، ومن دون هذا الإطار، أي صعود مجتمع معرفي ثابت المعالِم، لم يكن ممكناً ظهور فكر في الحضارة العربية.

يفرّق اليازجي بين نوعين من المعارف التي شغلت العرب في تلك المرحلة الانتقالية، وهي المعارف الأهلية ومنها اللغة والفقه وصناعة الشعر والتاريخ، والمعارف الدخيلة وفيها بالخصوص الحِساب وضمنها الفلك من الهند وعلوم الطبيعة وأبرزها الطب من اليونان. يقف الإنتاج الفكري في منزلة بين التصنيفين، فقد كان رهان المشتغلين العرب على كل ما هو نظري، أن يُوفّقوا بين العقيدة الإسلامية وما تناقلته الأجيال من معارف الحضارات القديمة، وهذه الرؤية أثّرت في انتقال أهمّ تقليد فكري وهو الفلسفة من اليونان.

يلفت اليازجي أن العرب لم يكتشفوا الفكر حين وصلتهم نصوص فلاسفة اليونان حيث إن أثره واضح في الموعظة الدينية والخطب السياسية، ولكن خصوصاً في الشِّعر ويستشهد بنصوص من الجاهلية تتضمّن تأملات في الموت وفي أحوال الجماعة البشرية وفي المعتقدات، ويمتدّ حُضور هذا المناخ الفكري إلى عُصور لاحقة خصوصاً مع أبي العتاهية وأبي تمام والمتنبي ليبلغ ذروته مع أبي العلاء المعري حين أصبحت معه الحيرة الوجودية الركن الذي ترتكز عليه القصيدة.

ويعتبر اليازجي أن هذه النزعة كانت انعكاساً لرغبة العرب في تخليد كل شيء ذي قيمة بالشعر، وبالتالي فإنّ الشعر العربي يقدّم للدارس مرآة لانشغال العرب بالفكر أو قلة الاهتمام به، وهو ما سيتجلّى في أدب العصور اللاحقة حين أصبح التفنّن اللغوي هدفاً في حدّ ذاته واختفت كل صلة للشعر بالفكر ثم انحسر الأخير في الحياة العامة بالتدريج وبقي الشعر كمؤسسة شكلية تضخّها بلاطات الأُسر الحاكمة بأسباب الحياة وعلى رأسها المال.

لم يعتمد اليازجي على تقسيم زمني في "معالم الفكر العربي" فلم يؤرّخ لكل مرحلة معدّداً أبرز مفكريها ومساهماتهم، بل كان يقدّم قضايا ثم يناقشها عبر أمثلة من أزمنة متعددة، فمثلاً يتناول التفكير في اللذة فيجمع بين استشهادات من أقوال المتصوّفة ونصوص لطرفة بن العبد وأبي نواس، أو يتناول قضية أجناس الكتابة ويؤكّد أن العرب أتاحوا لأنفسهم مساحات أوسع للتفكير حين طوّروا النثر على حساب الشعر منذ أدركوا بأن النثر طليق من القيود التي تكبّل اللفظة في الشعر وبالتالي تتحكم في الفكرة، وبالتدريج اتسع النثر لما لم يتسع له الشعر، ومن دون ذلك كان الفكر العربي سيبقى أسير لمحات شعرية متناثرة.

وإذا كانت الفلسفة هي أشهر صناعات الفكر، فإن اليازجي يقدّم تفسيراً لتنشّطها عربياً، خصوصاً أن انتقالها من اليونان إلى العرب ليس وراثة طبيعية كما يعتقد البعض ذلك أن شعوباً أخرى منهم الرومان أخذوا الكثير من اليونان لكنهم تركوا الفلسفة. لفهم هذه الرغبة في تملّك أدوات الفلسفة، يعود اليازجي إلى سجالات عِلم الكلام، والذي يمثّل بنفسه أحد ملامح النظر الفلسفي، فيذكر ما دار من جدل في مسائل مثل: التخيير والتسيير، والتشبيه والتنزيه، أو المنزلة بين المنزلتين، معتبراً أن هذا المناخ دفع المتكلّمين لتوفير أرضيات فكرية أمتن لحُجَجِهم وهنا كان لا بد من التقاطع مع الفلسفة اليونانية، وبشكل عام مع مختلف العلوم التجريدية التي طوّرها الإغريق.

الخطوة اللاحقة التي يتابعها اليازجي هي انتقال العرب من استعمال الفلسفة إلى إنتاجها، وقد بدأ ذلك مع الكِنْديّ الذي "دشّن مرحلة من التأليف في المصطلحات والتعريفات"، وهو ما يعبّر عن لحظة امتلاك العرب للعلوم العقلية. يفسّر اليازجي هذه اللحظة بجمع الكِنْديّ بين الاطلاع الواسع على المعارف الدخيلة وطول الباع في اللغة العربية وأساليبها، وقد تفيد هذه الملاحظةُ الثقافةَ العربية المعاصرة فمن دون الجمع بين الشرطين يكون من غير الممكن الطموح بحياة فكرية مزدهرة.

تَواصَل تطوير الصناعات الفكرية عند العرب بعد الكِنْدي وذلك حين انتقل الفلاسفة من مرحلة كانوا يتركون فيها كل ما لا يتوافق بين نصوص اليونان ومبادئ الشريعة الإسلامية إلى القدرة على التوفيق، وهو مرحلة كان الفارابيُّ عَلَمَها، وتَعْقبها مرحلة يسمّيها اليازجي بـ"التنسيق" وأبرز أسمائها ابن سينا الذي فتح العلوم العقلية على العلوم الطبيعية فأفادهما معاً، غير أن ابن سينا سيكون آخر درجة من درجات التطوّر الفكري في الحضارة الإسلامية، ولولا بعض اللمعات في عصور لاحقة، في الأندلس مع ابن رشد وابن طفيل، أو في السَّلطنة الحفصية مع ابن خلدون، لكان من الممكن القول إن الفكر العربي قد رافق ابن سينا إلى قَبره، فبعده اشتدّت المشاحنات بين الفلاسفة والمتكلّمين خصوصاً في سجال "التهافت" بين ابن رشد والغزالي، وهي معركة يرى اليازجي أنها أفضت إلى تدمير الفقه والفلسفة معاً في الحضارة الإسلامية.

كخاتمة، يقدّم اليازجي فصلاً بعنوان "أثر الفكر العربي في الغرب اللاتيني" غير أنه لا يتناول هذا الموضوع من زاوية مطالبة الغرب بالاعتراف بالإرث العربي في الغرب كما جرت العادة لدى كثير من معاصريه، بل يتناوله من زاوية طريفة وهو أن انتقال المعارف من الشرق إلى الغرب ما كان ممكناً لولا الدور الذي لعبته اللغة العربية فقد كانت البحر الذي صبّت فيه كل الثقافات وبلغت فيه المعارف ما بلغته.

وكما بدأ اليازجي عمله بإشارة إلى تنشّط الرحلة بين حواضر البلاد الإسلامية لطلب العلم، يشير في ختام كتابه إلى تنشّط الرحلات في طلب المؤلفات العربية من الحواضر الأوروبية حيث تنقّل طلبة العلم والمترجمون إلى مدن الأندلس بالخصوص لجمع الكتب العربية وكان ذلك أحد عوامل النهضة التي ستشهدها أوروبا في القرن السادس عشر، وهي النهضة التي كان من نتائجها الاكتشافات الجغرافية وتطوير الأسلحة، ما سيحبس البلاد العربية في جغرافيتها ويزيد من تسارع أُفولها الحضاري إلى أن طرق الغربيون أبوابها مجدداً، ليس كمترجمين هذه المرة بل كغزاة.

دلالات

المساهمون