"مذكّرات" صلاح أبو سيف: كتاب تجميلي يفتقد المصداقية والدقّة

"مذكّرات" صلاح أبو سيف: كتاب تجميلي يفتقد المصداقية والدقّة

24 يوليو 2019
صلاح أبو سيف: تجميل الذات والإساءة إلى الآخرين (فيسبوك)
+ الخط -
مَنْ يقرأ الكتب كلّها لهاشم النحاس عن صلاح أبو سيف (1915 ـ 1996)، أحد أهم مخرجي الواقعية المصرية، خصوصًا المحاورات، يُدرِك مدى السطحية وعدم المصداقية اللتين تكتنفان "صلاح أبو سيف.. مذكّرات مجهولة" لعادل حمودة، الصادر عن "مهرجان القاهرة السينمائي الدولي"، في دورته الـ40 (20 ـ 29 نوفمبر/ تشرين الثاني 2019)، والمعتمِد على حكاياتٍ مُثيرة عن النساء والجنس والنميمة. 

يتميّز السرد بلغة بارعة وأسلوب جزل، لكن ينقصه الدقّة العلمية والتوثيق، إذْ لا يُمكن لباحث سينمائيّ جدّي أن يعتمده مرجعًا، إلا بعد التدقيق في المعلومات الواردة فيه، ومقارنتها بمرجعين آخرين، فغالبية روايات مخرج الواقعية وحكاياته فيه غير مُوثَّقة، لذا لا يُعرف حجم الخيال الذي أضفاه المؤلف على المذكرات، لأن شرائط الـ"كاسيت" المُسجّل عليها الحوار غير متاحة للتحقّق منها ومراجعتها.

ورغم تأكيد المؤلّف أنّ أبو سيف راجَعَ المنشور بنفسه، فهذا غير كافٍ للثقّة به، لأسبابٍ، منها أنّ مقاطع عديدة في الكتاب توضح (بمقارنتها مع مراجع أخرى) أنّ المخرج يتجمَّل ويرسم صورة برّاقة عن نفسه، بينما يرسم صُوَرًا غير صادقة عن زملائه، للتقليل من كفاءاتهم.
مثلاً: بحسب كتاب حمودة، يؤكّد أبو سيف أنّه هو "أوّل مَنْ فكّر في إنشاء نقابة للسينمائيين، وأوّل مَنْ طالب بمعهد للسينما". لكن معلومة واردة في "مذكّرات محمد كريم ـ في تاريخ السينما المصرية" (إعداد وتحقيق محمود علي، تقديم مدكور ثابت، ملفات السينما ـ 17، أكاديمية الفنون. وثابت أحد تلامذة كريم) تتناول إنشاء نادي ونقابة السينمائيين، بالإضافة إلى فصل خاص بمعهد السينما، توضح (المعلومة) أنّ أبو سيف أحد المُشاركين أو المساهمين فقط، مقابل آخرين لهم جهود سبَّاقة، أبرزهم أحمد بدرخان ومحمد كريم.

في "صلاح أبو سيف، محاورات" (الهيئة العامة للكتاب، 1996)، يؤكّد هاشم النحاس، المعروف بدقّته ومصداقيته ومنهجه العلمي البعيد عن الإثارة، أنّ أبو سيف كان يُدرّس في المعهد، ولا توجد إشارة إلى مزاعمه في "المذكّرات المجهولة". ويُشير النحاس إلى أن صلاح أبو سيف أنشأ أول وآخر معهد للسيناريو (عمل لـ4 أعوام فقط). لكن، إنْ تكن معلومات عادل حمودة، المنقولة عن صلاح أبو سيف، صحيحة، لذكرها النحاس في محاوراته، خصوصًا أنّ كلّ ما يتعلق بالسينما، وكل ما هو بعيد عن النميمة وأحاديث الإثارة، لن يكون مجهولاً، لأنّه موجود في محاوراته.



مثلٌ آخر: في كتابه، يدّعي عادل حمودة أنّ الفيلم الروائي القصير "نمرة 6"، أول أفلام صلاح أبو سيف كمخرج، هو أول فيلم تعترض عليه وزارة الداخلية. هذا يؤكّده طارق الشناوي في المقدّمة: "الرقابة اعتبرت المخرج يسخر (فيه) من الموت" (ص. 13). لكن، في محاورات النحاس، يقول مخرج الواقعية نفسه إنّه عندما ذهب إلى وزارة الداخلية ليعرف سبب المنع، أخبروه أن "استوديو مصر" هو الذي طلب منع عرضه، لأن مديره آنذاك (أندريه فينيو) اعتبره "مسيئًا" للأطباء (ص. 45).

يُلاحَظ أيضًا أنّ أبو سيف، عندما ذكر واقعة المنع الرقابي تلك (كتاب النحاس)، لم يقل إنّه أول منع رقابي في تاريخ السينما المصرية. فالتاريخ يثبت وجود أفلام ممنوعة قبله، كـ"لاشين" (1938) لفريتز كرامب، أي قبل منع فيلم أبو سيف بنحو عامين. بل إنّه مُنع مرّات عديدة قبل العرض وبعده، حتى أنّه أُعيد تصوير النهاية بسبب الرقابة، وظلّ عقودًا طويلة ممنوعًا من العرض التلفزيوني. كما أنّ هناك سيناريوهات مُنع تصويرها، كسيناريو "النبي محمد" (بطولة يوسف وهبي)، لكنه تراجع عنه بسبب الهجوم الشديد للأزهر عليه عام 1926، مُحرِّمًا تنفيذه.

هناك أيضًا تناول صلاح أبو سيف لمخرجين لهم مكانة في تاريخ السينما المصرية، وإنْ بفيلم واحد، أمثال كمال سليم وكامل التلمساني. كان يتحدّث عنهم بشكلٍ سيئ وغير مُنصف، ما يستدعي توثيق الناقد الراحل سمير فريد عن تجربته مع أبو سيف، الذي كان يُحاول خلق انطباع سلبي عن منافسيه: كان يصف يوسف شاهين بأنه "خواجة"، أي أنه لا يستطيع إخراج فيلم عن الواقع المصري، وهذا يعترف به فريد مؤكّدًا أنّ ذلك أثّر على أحكامه النقدية على شاهين، إلى أن شاهد "الأرض" (1969)، فتغيّرت كتاباته، وأنصف شاهين، ما أغضب أبو سيف عليه، إلى درجة توتّر العلاقة بينهما. حتّى أنّ أبو سيف جمع تواقيع مخرجين وصنّاع سينمائيين في مصر لمنع فريد من تولّي مسؤولية صفحات السينما، المُرشّح لها.

كما أنه تناول بالسوء، فنيًا وفكريًا، الألماني فريتز كرامب، الذي أخرج لـ"استوديو مصر" فيلمي "وداد" (1936) و"لاشين"، وإن تجاهل أبو سيف ذكر "لاشين" نهائيًا، لأن ذكره كان سيكشف كذبه، فاكتفى بانتقاد "وداد"، مدّعيًا أن كرامب "خواجة" و"نازيّ" النزعة والسلوك، رغم أنه ـ في موقع آخر في الكتاب نفسه ـ يعتبر أنه جاء إلى مصر هربًا من النازية. وعندما يحاول تفسير كراهيته له، يقول إنّه كان ضد المصريين، وإنّه مخرج متواضع وسيئ.

حقيقةً، أحكام صلاح أبو سيف مغلوطة، لأنّ "لاشين" فيلمٌ ثوريٌ يتناول الظلم الموجود في الواقع، رغم كونه تاريخيًا، بدليل المنع الرقابي له مرّات عديدة. و"وداد" ليس متواضعًا ولا سيئًا، فكاتب قصّته وحواره هو أحمد رامي، بينما كتب أحمد بدرخان السيناريو، والتمثيل لأم كلثوم. هذا كلّه يُفسّر مشاركته في الدورة الـ4 (10 ـ 31 أغسطس/ آب 1936) لـ"مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي".

لهذا كلّه، يُعتبر "صلاح أبو سيف.. مذكرات مجهولة" أحد الكتب التجميلية الفاقدة للمصداقية، وعلى الباحث أن يتحرّى الدقّة والمراجعة في كلّ معلومة واردة فيه.

المساهمون