"مجزرة" اليومي وأشيائه الصغيرة

"مجزرة" اليومي وأشيائه الصغيرة

16 أكتوبر 2014
(تصوير: فاضل عيتاني)
+ الخط -

ضَرْبُ الطفل فرديناند للطفل برونو بعصا، يشكّل الحدث الأول في مسرحية "مجزرة" (نص الفرنسية ياسمينا ريزا، وإخراج كارلوس شاهين). حدثٌ لن نراه على الخشبة، بل سنتتبع أثره. سيحضر تارةً كخلفيةٍ ناعمة، وتارة كإشكال وجوديّ عظيم. لكنه في كلا الحالتين، سيكون الثقب الأسود الذي تتداعى على تخومه شخصيات العمل الأربع: آلان وآنيت والدا المعتدي، ومايكل وفيرونيك والدا المعتدى عليه.

نحن في منزل والدي برونو، اللذين يقرّر والدا فرديناند زيارتهما للوقوف على الحادثة والاعتذار. كنبةٌ فسيحةٌ في الوسط، محاطةٌ بكراسٍ وطاولة عليها كتب وأمامها مزهرية فيها توليب أبيض، وفي زاويتي المسرح ثمة المطبخ والحمام، بينما الخلفية طاولةٌ عريضة وشاشة تعرض مرور طائرات ركاب بين وقت وآخر.

في هذا المناخ الأنيق، نتوقع جلسة "عادية"، وحواراً ميكانيكياً لا يتجاوز حدود ظرف الزيارة، إلا أن الشخصيات "الراشدة" تقع في فخ قصصها، فتتوتّر وتقرِّب نفسها بالتالي من مجهر المشاهد، دافعةً إشكال الطفلين الأساسي أبعد فأبعد.

السينوغرافيا بدورها، ورغم التخريب الذي ستتعرّض له لاحقاً، تُشَكِّل بيئةً حاضنة لتأزم الشخصيات، وإطاراً ثابتاً، تفتح فيه كل شخصية أبوابها النفسية أمامنا، فنختبر طبقاتها ومستوى دهائها وخلفياتها (محامٍ ووكيلة عقارات، يقابلهما تاجر وكاتبة).

إنها شخصيات، وإن بدت منضبطةً في بداية المسرحية، متأنّقةً، لبقةً، فإنّها لا تلبث مع تطوِّر الحوار وانتقاله إلى مستويات أخرى، أن تنفلت من كل رابط مقدس (الزواج، الأبوة، العائلة، المجتمع)، لتنحاز إلى قلقها الفردي وسأمِها الدفين. إنها محكومةٌ بالتشظي والميل إلى الخفة ورؤيتها الذاتية في تعاطيها مع المواضيع العامة، كبيرة كانت أم صغيرة.

من هنا، لا نعود إزاء مجموعتين من الأزواج، مستقلَّتَيْن ومرتّبتين، بل نحن أمام أربعة أفرادٍ يرمون وراء ظهرهم كل الأدبيات الاجتماعية. والمنحى التصعيدي الذي تزج فيه الكاتبة الشخصيات، يضخِّمه المخرج من خلال توزيع وإعادة توزيع الشخصيات على المسرح.

هكذا، يدفع آلان المحامي، و"اللغوي"، الذي لا يكف عن التحدّث على هاتفه الجوّال، إلى خلفية المشهد، أو إبقائه على مسافة من الآخرين، ملمّحاً بذلك إلى موقع العالم الخارجي، "البعيد"، عالم القضايا والمال، وقدرته على التدخل السافر في مسائل الأشخاص الداخلية.

أمّا الشخصيات الأخرى، فيبدو صدامها ببعضها نافراً أكثر، وتَغَيُّر نشاطها رهناً بالمفاصل الدرامية "الصادمة" اجتماعياً، والتي تُحدث شرخاً في كل شخصية وتفضحها: تقيؤ آنيت على الكتب والقهوة، عنف فيرونيك تجاه زوجها مايكل، رمي آنيت جوال زوجها في ماء المزهرية، بعثرة فيونيك لحقيبة آنيت، تفتيت آنيت التوليب.

النص برشاقته وحنكة إيقاعه، وانغماسه في الزمن الراهن بعلاماته (اقتناء هامستر/ استعمال هاتف خلوي/ بزنس شركات الأدوية/ أزمة دارفور)، هو حامل هذه الشخصيات ومشرطها في نفس الوقت. ولا بد من الإشارة إلى أن كلاً من الممثلين الأربعة: فادي أبي سمرا، كارول الحاج، برناديت حديب ورودريغ سليمان؛ أمسك جيداً بعمق الشخصية التي لعبها. فلم نشهدْ تمثيلاً مبالغاً فيه، ولا توتّراً زائداً على السياق الدرامي.

أما الإضاءة، فبقيت ثابتة تقريباً، لتوكل إليها في المشهد الأخير مهمة التدليل على جمود الفوضى وتكريسها وخراب الشخصيات. المسرحية التي تستمر عروضها في "مسرح مونو" البيروتي حتى الثاني من تشرين الثاني/ نوفمبر المقبل، هي أول اقتباس بالعربية (ترجمة رندا أسمر) لنص ريزا الذي دار عواصم ومدناً حول العالم، وهي، أيضاً، أول مسرحية في لبنان لكارلوس شاهين الذي أبقى على النص الأصلي ولم يلبننْهُ. 

دلالات

المساهمون