"مانفيستو" الإرهاب المقدس

"مانفيستو" الإرهاب المقدس

22 مارس 2019

ورد على مسجد في سيدني.. ضد العنصرية (20/3/2019/فرانس برس)

+ الخط -
تكشف قراءة "مانفيستو" إرهابي نيوزيلندا الذي نشره على صفحته على "فيسبوك" ساعات قبل ارتكابه مذبحته البشعة التي راح ضحيتها خمسون مسلماً، قبل أسبوع، عن عقلية إرهابية مفرطة في الغضب والكراهية والحقد والرغبة في الانتقام من المهاجرين، خصوصا المسلمين، الذي يُطلق عليهم لفظ "الغزاة". وقد تعمّد الإرهابي أن يظهر المانفيستو، كما لو كان قد كُتب بعد ارتكاب جريمته. يتحدث فيه عن شخص يرى نفسه في مهمة مقدّسة من أجل إنقاذ العرق الأبيض من الهلاك، بسبب تكاثر المهاجرين، وتراجع خصوبة الرجل الأبيض.
يشير إرهابي نيوزيلندا إلى أنه كان شخصاً عادياً قبل أن يتحوّل إلى إرهابي (هكذا يصف نفسه بصراحة وفخر ومن دون مواربة) قبل عامين، وذلك حين كان في جولة سياحية في أوروبا، وسمع عن وقوع هجوم إرهابي في مدينة استوكهولم السويدية، راح ضحيته أربعة أشخاص، بينهم طفلة تُدعى إيبا أكيرلوند، كانت في طريق عودتها من المدرسة. أما الحدث الثاني الذي ساهم في تحوّله وتطرّفه (لا يراه تطرّفاً!) هو خسارة زعيمة اليمين المتطرّف في فرنسا، ماري لوبان، في الانتخابات الرئاسية الفرنسية عام 2017. وقتها فقد الإرهابي صوابه، حيث كان من مؤيديها، ومن المدافعين عنها، بسبب سياساتها المعادية للمهاجرين، خصوصا المسلمين. هذان الحدثان جعلا الإرهابي على قناعة بأن الحل السياسي الديمقراطي لن يجدي نفعاً مع المهاجرين، وأنه لابد من الانتقال إلى حل آخر أكثر نجاعة، وهو حمل السلاح وقتل المسلمين "الغزاة".
والأكثر من ذلك، يدّعي إرهابي نيوزيلندا أنه يمثل ملايين الأوروبيين البيض، الغاضبين من التحولات الثقافية والاجتماعية التي تجري لبلدانهم، واختراق المهاجرين ثقافتهم، وتأثير هؤلاء السلبي عليها، حسب قوله. وعلى الرغم من ذلك، يوضح أنه لم ينتم إلى أية جماعة، وقد نفّذ هجومه بشكل فردي، من دون مساعدة أو تحريض من أي أحد، ولكنه حصل على "بركة" وتأييد منظمة "فرسان الهيكل" التي تتبنّى أفكارا يمينية عنصرية، تقوم على تفوّق العرق الأبيض على غيره من الأعراق، ولعب أفرادها دوراً مهماً في الحروب الصليبية بين القرنين الحادي عشر والثالث عشر. ولا يتوقف الإرهابي عن اجترار التاريخ واجتزائه من سياقاته، من أجل تبرير جريمته، بل يحرّض الآخرين على القيام بما قام به. حيث يقول صراحة إن الهدف من هجومه الإرهابي على المسلمين في مسجدي نيوزيلندا هو التحريض، وإثارة بني جلدته، خصوصا في أوروبا وأميركا، على حمل السلاح، لطرد من يسميهم الغزاة وقتلهم. وهو يدرك جيداً أن بلدا مثل الولايات المتحدة يعيش حالة انقسام سياسي وعرقي وإثني وديني، وفي ظل حرية امتلاك السلاح المكفولة بالدستور الأميركي، يعتقد أن جريمته سوف تؤدي إلى زيادة هذا الانقسام. ويعتقد أن ما قام به سوف يؤدي إلى حالة صحوة بين اليمين المتطرّف، تغير خطابه السياسي، وتثير الرعب والفزع في قلوب المهاجرين، خصوصا المسلمين. بل الأكثر إثارة أن يبرّر استهداف المسلمين، بسبب ارتفاع معدلات الخصوبة بينهم، وتكاثرهم البيولوجي، وسعيهم إلى احتلال أراضي البيض، واستبدال ثقافتهم وعاداتهم وتقاليدهم.
الملفت للانتباه اعتراف الإرهابي بأن ما قام به هو عمل إرهابي مقصود، ومخطط له، من أجل تحرير بلاد الغرب من الغزاة. كما يقدم، في بيانه، وصفاً تفصيلياً لعملية التخطيط والتدريب التي سبقت ارتكاب جريمته، والتي بدأت قبل عامين، وأسباب اختياره مدينة كرايست تشيرش. وكذلك وصفه الأسلحة التي تم استخدامها في الهجوم على المساجد. ولا يبدي الإرهابي أي ندم على جريمته، بل كان يتمنّى أنه لو قام بقتل عدد أكبر من "الغزاة" و"الخونة" على حد تعبيره. وهؤلاء "الخونة"، بالنسبة له، هم المواطنون المتحولون إلى الإسلام.
نحن إذاً إزاء نمط جديد من "الإرهاب المقدّس"، يتغذى على سرديات تاريخية، من أجل شرعنة وجوده. وهو إرهابٌ يفوق، في جرأته وبشاعته، ما تفعله الجماعات الراديكالية في العالم الإسلامي.
A6B2AD19-AA7A-4CE0-B76F-82674F4DCDE4
خليل العناني

أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة جونز هوبكنز الأميركية. عمل كبير باحثين في معهد الشرق الأوسط، وباحثاً في جامعة دورهام البريطانية، وباحثاً زائراً في معهد بروكينجز.من كتبه "الإخوان المسلمون في مصر ..شيخوخة تصارع الزمن".