"لويس دي فنيس من الألف إلى الياء": سيرة على هيئة معجم

"لويس دي فنيس من الألف إلى الياء": سيرة على هيئة معجم

28 يوليو 2020
لويس دي فنيس (ت: بيير فوتيه)
+ الخط -

في شهر كانون الثاني/ يناير من سنة 1983، غاب أحدُ أشهر وجوه الإضحاك في السينما الفرنسية خلال النصف الثاني من القرن العشرين: لويس دي فنيس، ذلك الممثّل الذي طوّعَ فنّ الحركات والإيماءات وحتى التكشير، من أجل خلق مشاهدَ مسرحيّة وسينمائيّة ساخرةٍ، تنتقد من طرفٍ خفيّ، شهادَةَ الشاهدِ من أهله، المجتمعَ الفرنسي ولاسيّما فئاتِهِ الثريّة وما يصِمُها من نفاقٍ وعُجْب، وشيءٍ من البرود مع كثير من "النَقّ".

وقد اختار الصحافيّ الفرنسي برتراند ديكال، وهو من المفتونين بهذا الممثّل، أن يخصّصّ له مُعجمًا كاملاً، صَدرَ منذ أسابيع قليلة، عن "دار غروند بباريس"، تحت عنوان "لويس دي فنيس: من الألف إلى الياء".

يتضمّن هذا المعجم الشخصيّ زهاءَ مئتيْ مَدخلٍ تعريفيّ، مُرتَّبة على حسب حروف الهجاء، وتشمل عناوين أفلامه ومسرحياته التي أدّاها، والمُخرجين والمُمثّلين الذين اشتغل معهم، طيلةَ مسيرته الفنيّة. كما تضمّن العديدَ من المداخل الطريفة الدقيقة، التي تحمل عناوينَ غيرَ مُتوقّعة مثل: "وجه"، "تكشير" "ضربة كفّ"، "فم"، "وردة"، وغيرها من الموضوعات التي لها وشيجةُ قُربى ما مع أعمال هذا الممثّل الذي ملأ الدنيا بحركاته وتكشيراته وسرعة بداهته في الارتجال. كما تناولت جلَّ الجوانب الفنية عن هذا الممثل الضاحك، بالإضافة إلى العَديد من الخفايا الشخصيّة التي تَكشف عُقدَهُ الذاتيّة والتي جعلته يبدع، مع أنّه ظلَّ وإلى سنّ الثلاثين من عمره، مجرَّد عازفِ بيانو مغمورٍ في الكباريهات.

يَعكف على دراسة شخصيّة هزليّة بأسلوب موغِلٍ في الجدّية

كما يحتوي هذا المعجم ذو الأربعمئة صفحةً، إلى جانب المداخل التعريفيّة، العديد من الصور والوثائق التي أضافت إليه قيمةً تاريخية أكيدة، وجعلت منه بمثابة سيرة حياة مصوّرة، فُصولها مداخل متعاقبة مترابطة. والطريف في هذا المعجم، أنه في الوقت الذي يَعكف على دراسة شخصيّة هزليّة، كُتبَ بأسلوب موغِلٍ في الجدّية، حريصٍ على التوثيق العلميّ الدقيق لكل حدثٍ ولكل معطىً من هذه السيرة. فهو يَلج بنا العوالم العامة والخاصّة لهذا الفنّان كأنما يَرفع حيفًا نَزَل به، حيفَ اعتبارِ الرجل مجرَد مُهرّجٍ، لا دور له سوى إضحاك الجمهور.

ولذلك سعى الكاتب برتنارد ديكال إلى تبرير هذا التأليف مؤكّدا أنّ كلّ الفرنسيين، والغربيين عمومًا، قد تعلّقوا في حياتهم، ولو لمدة دقيقة واحدة، بـ لويس دي فنيس، وأقرّوا له بالسَّبْق والأستاذيّة في جمالية الإضحاك الصادق. كما كشف لنا، معشرَ المشاهدين والقرّاء، أنّ هذه الشخصيّة، ليست كما نظنّها هازلة ساخرة، ضاحكة مضحكة، بل هي، في تصاريف الحياة، أمْيل إلى السوداويّة والعبوس بسبب ما كابدته من إخفاقات وجروح.

وثمة تساؤل ثانٍ حرّك الصحافيّ الفرنسيّ، ويتعلّق بهذا البون الشاسع بين الثقافة النبيلة والموضوعات الهزليّة التي تزدريها الأعمال الرسميّة. فأراد من خلال هذا المعجم الموضوعي أن يذلّل هذا البونَ عبر تَخصيص دراسة جادَّة صارمة عنه. ومن النقاط الجديدة أنّ هذا العمل سَلَّط الضوء على الجوانب المجهولة في سيرة بطل "الجولة الكبرى"، مثل مشاركاته المسرحية، والتي وللأسف الشديد ضاعت إلى الأبد لأنّ التلفزة الفرنسية لم تصوّر، في ذلك الحين، إلا مقاطعَ جزئيَّة منها. ومنها ذكرياته مع ثلّة من المخرجين المغمورين الذين تعامل معهم في مسرحياته الأولى: "أوسكار" و"البخيل".

كأنما يَرفع حيفًا طاوله، حيفَ اعتبار الرجل مجرّد مُهرّج

ومن طرائف هذه السّيرة المُمَعْجَمة (biographie lexicalisée) أنْ تشرحَ الملابسات التي حفّت بكل واحدةٍ من حركاته مثل "شدّ الأنف"، وهي حركات اشتهر بها وصارت عليه علامةً، مع أنّه ارتَجَلَها في لحظات انعتاقه الساخر.

ومن بين ما نكتشفه أنّ هذا الممثل، وبالرّغم من سرعة حركاته ظاهريًّا، كان ممثلاً بطيئًا، لا تنصاع إليه الأدوار السينمائية إلا بعد لَأيٍ، ولا يَلين له شِماسُها، حتى أنه كان يصوّر المشهد الواحدَ أكثر من ثلاثين مرّة ليستقيم له. كما نكتشف أنَّ طموح الرّجل كان في البداية محدودًا، مقتصرًا على أن يظهر لدقائق معدودةٍ في كل شريطٍ أو أن يحصل على الدور الثاني أو الثالث فيه. وتحوّلت حياته فجأةً بعد سنة 1964 حين دخل طورَ النجومية بأفلام مثل "فونتيماس" و"شرطي سان تروبي"، و"كورنيو"، وهي الأفلام الكبرى الثلاثة التي صُوّرت في نفس السنة، خلال أربعة أشهر فقط، وجعلت منه الممثل الأشهر، الأكثر مشاهدةً وصاحبَ الراتب الأعلى في فرنسا وأوروبا، ولسنواتٍ متعاقبة. ومع ذلك، بقي الرجل حائرًا مترددًا، كممثل، تلازمه "عُقدُ الممثلين" الذين يعجزون أحيانًا عن أداء الأدوار الجادة والصادقة التي تمس شَغاف المشاهدين.

وأما ما يتعلق بالحياة الخاصة للويس دي فنيس، فقد فضّل الصحافي-المعجمي أن يبقى حَيِيًّا، فلم يَقتحمْ عالَمه الخاص وما صوَّر منه إلا القليل، وهنا نكتشف أيضًا أنه عاش "ليالي رماديّة"، بحسب عبارته، أي لياليَ شقاء ووَحْدة. وليس هذا من قبيل الأفكار النمطيّة حيث تخفي كثرة الإضحاك إحساسًا بالألم، بل حقيقة عانى منها سنين. ومن ذلك أنّ أباه كان منحدراً من البورجوازية الإسبانيّة وأنه أوهَمَ أسْرَته بالانتحار حتى يغيب عن الأنظار ويبدّدَ كلَّ ثرواته. وهكذا يتقدّم بنا هذا القاموس نادرةً تلو الأخرى، يصور مراحل الحياة المعقدة والمليئة لهذا الممثل. ومن ذلك أنه كان عندما يستَقِلُّ سيّارة تاكسي، لا يدفع أجرة السائق نقدًا، بل يُقدم، عن قصدٍ وترصُّدٍ، شيكًا، يُمضيه بقَلمه الجميل، مما يجعل السائق المسكين يحتفظ به ولا يصرِفه...

الصورة
لوي دي فينيس

منهج هذا الضرب من التأليف المعجمي أصيل: يسبر أغوار الشخصيّة المدروسة من خلال مداخل تعريفية، تسلِّط كلّ واحدة منها الضوء على جانب من جوانبها. وقد ازدَهَرَت هذه المعاجمُ عن الفلاسفة والكتاب والساسة في اللغات الأوروبية وهو ما يقودنا إلى التفكير في وجود هذه المعاجم بلغة الضاد حول المثقّفين. ولكن ما يَصدم المتابعَ أنَّ كِبارَ مُفكّرينا، كطه حسين والعقّاد والحكيم... لم تُحَرّر عنهم مَعاجِمُ خاصة بهم، فما بالك بالممثلين والفنانين مثل أم كلثوم وفيروز أو فريد شوقي وعادل إمام. فهل فكّر أحد المتخصّصين في وضع معجم موضوعي ليضئ جوانب عن حياة هؤلاء الأعلام الذين عَمَروا المشهدَ الثقافي العربي طيلة عُقودٍ.

وليست صِناعة المعاجم بِحِكرٍ على علماء الألسنية. بل هي أيضا مُتاحةٌ، إن أتْقِنت أصولُها، لِرجال الصحافة ومؤرّخي الفنون ومُلاحظي السياسة حتى تكون كتاباتُهم مداخلَ للفن ووسائل لفهم رسالته وتفكيكها عبر البعد البنيوي العقلاني الذي تَتَسَلّط به المعاجم على الموضوعات، فتقسمها إلى مَداخل مترابطة، خيطها الناظم شخصية الفنان وتحوّلات مجتمعه.

يُذكَر أن برتراند دكال صحافي فرنسيّ، حائز على شهادة معهد العلوم السياسية في باريس ومن مركز تدريب الصحافيين. تخصص في الثقافة الشعبيّة ونتاجها الموسيقي وخاصةً من الأغاني الفرنسيّة. عَمل لمدة طويلة في جريدة "فيغارو"، كما في إذاعة "فرانس-أنفو" ببرنامج عنوانه "هذه الأغاني التي صَنَعت التاريخ"، كما ألَّفَ العديد من الكتب حول الثقافة الشعبيّة التي توازي الثقافة العالِمة النبيلة.

موقف
التحديثات الحية

المساهمون