"لسان العرب" من زاوية أُخرى

"لسان العرب" من زاوية أُخرى

11 ابريل 2019
(قفصة، حيث ولد ابن منظور، تصوير: روجيه فيوليه، 1910)
+ الخط -

"لسان العرب" لابن منظور (1232 - 1311)، هو أشهر معجم للّغة العربية على الإطلاق، سواء لدى المتخصّصين أو غيرهم. إنه بمثابة كتاب مقدّس بالنسبة إلى اللغويّين. من البديهي أنه لم يكن أوّل ولا آخر معجم، ابتداءً من "كتاب العين" للفراهيدي، ومروراً بـ"درّة الغوّاص" و"كتاب الأضداد" للأنباري، و"الفروق اللغوية" لأبي هلال العسكري، و"ترتيب إصلاح المنطق" لابن السكّيت، من ناحية، و"تهذيب اللّغة" و"الصحاح" و"المُحكم" و"القاموس المحيط" وغيرها…

لنترك جانباً الحديث عن الجهد الكبير الذي بذله ابن منظور والقيمة الرفيعة لمعجمه، فهما من البديهيات، ولننتبه إلى جانب لم نتعّود أن نقرأه بصفة عامّة، ولا يخطر حتى ببالنا في حال المعاجم. لقد قدّم ابن منظور لمؤلفه بمقدّمة تشّكل لوحدها متعةً لا تُوازى ولا تُقدّر بثمن؛ هو المعروف بتلخيص مجموعات كثيرة من عيون التراث كـ"تاريخ دمشق" مثلاً؛ لقد تفرّد في تقديمه لـ"لسان العرب" بلغةٍ تخلط بين جدية الباحث الذكي ودقّته، ولغة الساخر المحترف.

وطِبقاً لطريقته في تلخيص المؤلّفات، يُعلن منذ البدء أنّه أسقط ما يُثقِل من أسانيد وعنعنات وتكرار وتطويل دون فائدة. وإذا كان ابن منظور يعشق التلخيص والتخفيف، فهو لا يساوم في القصور والنقصان. لقد لخّص مثلاً "كتاب الأغاني" للأصفهاني، ولكن زاد فيه مجلّداً كاملاً، مخصِّصاً فيه ملحقاً لأخبار أبي نواس، الغائب لأسباب مجهولة عن "الأغاني". وهذا الملحق نجده مرقّماً كآخر جزء من الكتاب، وقليلٌ من ينتبه إلى أنّه من تأليف ابن منظور نفسه.

مقدمّة "لسان العرب" مكتوبةٌ بلغة مباشرة، لا غبار عليها، ومطربة للغاية. فبعد عرضه لجودة من قبله ممّن اعتمدهم في تصنيف معجمه، يشرع في تفصيل زلّاتهم بسخرية طفيفة ظاهراً، ولكنّها في الباطن نقدٌ لاذع مبنيٌّ على حُجج علمية مقنعة. فيقول عن أصحاب التصانيف قبله: "من أًحْسن جمعه فإنّه لم يُحسِن وضعه، وأمّا من أجاد وضعه فإنّه لم يُجد جمعه. فلم يُفِد حُسْنُ الجمع مع إساءة الوضع ولا نفعت إجادَة الوضع مع رداءة الجمع". إذن، فابن منظور من الأوائل الذين بيّنوا أهمية التقنية في جمع ووضع معجم ناجح، سهل المرام.

وبعد تنويهه بـ"تهذيب اللغة" للأزهري و"المحكم" لابن سيده، وهما من ضمن المراجع الستّة التي اعتمدها، يستدرك بالقول إن كليهما عُسِّر مطلبه ووعْرٌ منهَله "كأنّ واضعه شرّع للناس مورداً عذباً وجلاهم عنه… فرّق الذِّهن بين الثنائي والمضاعف والمقلوب… وبدّد الفكر باللّفيف والمعتلّ". ويختم بأن الناس عزفوا عنهما حتى وكأن المعجمَين لم يعد لهما وجود.

يشرح، بعد ذلك، كيف أنّه وشّح مؤلّفه بالأخبار والآثار وآيات الذكر الحكيم وكيف عمِل على جمع وتحكيم ما تفرّق في كتُب الآخرين وكيف وضع في موضعه ما شرّقوا وغرّبوا، فصار معجمه "بمنزلة الأصل وأولئك بمنزلة الفروع". ويقول بلغته المرِحة الساخرة: "فلا أقول شافهْتُ أو سمِعت أو فعلت أو صنَعتُ، أو شددت أو رحلت، أو نقلت عن العرب العرباء أو حملتُ".

ومن بين ما يميّز "لسان العرب" هو أنّ صاحبه أفرد في بدايته باباً في "تفسير الحروف المقطّعة" ولم يكتَف بإيرادها داخل المصنّف أو نعتها بأنها معجزة أو سرّ إلهي فحسب، بل تناولها ضمن تنظير لما سيُعرف لاحقاً بعلم الحروف، والذي اهتمّ به غربيون اعتنقوا الإسلام مثل رونيه غينون الذي بلغ في ذلك مبلغاً.

وأتبَع هذا الباب بثانٍ يأتي ليدعم الأول وهو في "ألقاب الحروف وطبائعها وخواصّها"، معتمداً في ذلك على كتاب مفقود أفرده ابن كيسان لموضوع "ألقاب الحروف". وبعد عرض لأنواع الحروف ومخارجها وأشكالها من المجهورة، والمهموسة، والهوائية والحلقية وغيرها... ومسارها من الداخل إلى الحلق كالعين والهاء والحاء، والأسَلِية كالصاد والسين لأن مبدأها من أَسَلَة اللسان، واللثوية واليابسة والناريّة، وعلاقة الحروف بمنازل القمر الثمانية والعشرين (الهمزة يفرد لها باباً كاملاً ولها خواص واستعمالات مختلفة)، يتطرّق إلى منافِع الحروف حسب قوّتها وطبيعتها ويلِج بنا إلى عالم الطب والتداوي بالحروف، ويعطي معنى لما ورثته ثقافاتنا من آثار بعيدة كان لها منطق داخلي وتفسير (شبه) علمي، إلى شعوذات ومِهَن مبنيّة على الجهل وسفّ دماء اليائسين. فهذه مجموعة حروف تقوّي الحياة الغريزية للإنسان، وتدفع الأمراض البلغمية أو الباردة أو الرطبة. ومنها ما يصلح للدغ العقرب أو لتقوية الباه، وهذا باب أطال فيه من أفرد كتباً كاملة له.

ومن الطرائف التي يوردها أنّه، حتّى في عصره، فُقِدَ علم الحروف، فصار الدجّالون عوض أن يكتبوا حروفاً معيّنة على خدود الصبيان، إذا تورّمت أو أصابتها حمّى، اعتقاداً أنها ستشفيهم، يكتبون الأبجدية كلّها! وما أبعدنا من جميلات بغداد وهنّ يكتبن بالغالية أو الزعفران على الجبين بيت شعر يذيب قلب الحبيب، أو على الكفّ أملاً في قبلتِه.

وأخيراً، من لطيف ما جاء في مقدّمة ابن منظور، هو وصفه للأسباب التي جعلته يجمع هذا المعجم. ينطلق بأسىً شديد في الحديث عن معايب زمانه من اختلاف في الألسنة وكثرة اللحن في الكلام، بل وحتى النطق بالعربية صار معيباً، وكثرت "تصانيف الترجمانات في اللغة الأعجمية"، وغابت اللغة العربية ولم تعد فخراً لأصحابها.

يتحدّث ابن منظور وكأنّه في خضمّ حروب اللغات حالياً. فبعدما بكى زمَناً صارت لغته فيه منبوذة، مزهوداً فيها، يقول في صورة "شعرية" "نبوية" تؤكد أنّه لم يؤلّف معجما فقطً، ولكنّها تفصح عن نظرة متفرّدة للغة ومقاربة جديدة، هدفها حفظ العربية ودفعها نحو مستقبل باهر: "وصنعتُه كما صنع نوح الفُلك وقومه منه يسخرون وسمّيته لسان العرب".

المساهمون