"لا سبيل للعودة الآن يا صديقي"..تسطيح تجاربنا المُرة

"لا سبيل للعودة الآن يا صديقي"..تسطيح تجاربنا المُرة

16 ابريل 2015
+ الخط -

في واقع يمتلئ بالصور والوثائق اليومية، ومع تكاثف الوقائع الفردية والجمعية الحيّة، سادت لدى البعض حمى الاحتفاظ بنسخٍ عن هذه الصور والوثائق التي تلخص الألم والتجربة، ومع استمرار تدفق الميديا بشكلها الهمجي وسهولة الوصول لتلك المواد. أصبحنا نرى الآلاف من الفيديوهات المصورة ومئات الأفلام القصيرة والتقارير والنشرات على شبكة الإنترنت، منذ بداية الثورات العربية إلى اليوم.

وهنا نذهب أكثر في التخصيص، ونغوص ضمن الحالة السورية، فالهدف توثيق يوميات الثورة، وتسجيل شهادات أبناء الأرض السورية الذين أصبحت تجربتهم عرضةً للانتهاك من قبل لصوص اللحظة. دون أن يؤثر ذلك على مستقبل ومصير الإنسان ودون أن يقدم له حلولاً لحياته المأساوية، وربما هذا ما سنجده إذا استعرضنا عشرة أفلام وثائقية فقط من الأفلام التي صورها هواة ومحترفون خلال السنوات الأربع الماضية.

"لا سبيل للعودة الآن يا صديقي" من إخراج كارول منصور ونص سحر مندور، يتناول شهادات لبعض اللاجئين الفلسطينيين السوريين المتواجدين في لبنان، ويسلط الضوء على قضية لجوئهم الثاني، بعد أن خرجوا من سورية وأتوا إلى لبنان، وتتناول المخرجة لحظة حاسمة ومأساوية من تاريخ اللجوء الثاني لفلسطينيي سورية. وهي اللحظة التي قصفت بها طائرة الميغ مخيم اليرموك في نهاية عام 2012 وحولته اليوم إلى منطقة محاصرة ومنكوبة، وأدت لنزوح أكبر عدد من سكانه عنه هرباً نحو مناطق أكثر أمناً، ومنهم من قرر الذهاب إلى لبنان خوفاً من نيران الحرب التي أصبح من المستحيل توقع إخمادها في الوقت القريب.

ومن هنا بدأت المخرجة منصور حكايتها، وعملت على مقاربتها مع القصص المتناقلة والمروية على لسان الأجداد والآباء الذين خرجوا من الأرض الفلسطينية، وأورثوها لأبنائهم الذين يعيشون اليوم هذه التجربة.

يبدأ الفيلم بمشهد من مسلسل التغريبة الفلسطينية من إخراج حاتم علي، وما لهذا المسلسل التلفزيوني من رمزية عالية؛ لأنه يتعرض لحكاية التهجير القسري الذي تعرض له الفلسطينيون، ولكن إذا أمعنا النظر، وحاولنا تحليل المشهد الذي اختارته منصور افتتاحية لفيلمها، سيفتح هذا التحليل أبواباً لأسئلة كثيرة حول المراد قوله من مشهد بطول دقيقتين، مقتبس عن مسلسل تلفزيوني لا يفهم المتلقي منه إلا محاولتها إقحام مواد أخرى في الفيلم، تتطرق لنفس الموضوع الذي اختارته منصور. حتى إن هذا المشهد يفضي بأن الفلسطيني هو من يختلق المشاكل ويدفع الإسرائيلي للاعتداء عليه وقتله، متناسيةً أمر اغتصاب الأرض وتهجير أصحابها، ولربما كان هذا رسالةً من المخرجة للعالم، تقول فيها إن الحقيقة ليست كما نشاهدها في المسلسلات، إذاً من يكتب تاريخ لجوئنا؟

ينتقل بنا الفيلم مباشرة إلى إحدى شخصياته، فاطمة ذات الـ43 عاما بشكل إخراجي يحاكي التقارير التلفزيونية المبسطة، حيث تبدأ فاطمة مباشرة برواية شهادتها الحية لحظة مغادرتها مخيم اليرموك في دمشق ومقاربتها بنكبة 1948، التي لم ترها سوى في مسلسل التغريبة الفلسطينية، وسمعت عنها من ذويها الذين واكبوا النكبة، وهي بذلك تكون أمام حالتين إما تعتبر المسلسل التلفزيوني وثيقة رسمية، أو أنها تأخذ وثيقتها من فاطمة التي ما زالت تحت تأثير الخوف والتوتر إثر النزوح المفاجئ.

ثم تنتقل بنا المخرجة إلى سلسلة مقابلات مع عدد من اللاجئين الفلسطينيين القادمين من سورية، من مخيمات مختلفة، اعتمدتها كمادة أساسية في الفيلم، يرافقها بعض المشاهد المصورة من قبل بعض الناشطين داخل مخيم اليرموك، بعد قصف طائرات الميغ للمخيم، قبل أن تزج المخرجة ببعض فيديوهات اليوتيوب والتعليق عليها، إضافةً لتصويرها بيوتا من مخيمات اللجوء في لبنان تقول فيها إن الوضع الإنساني للاجئين الفلسطينيين في لبنان هو كارثي، ولا تلبث تكرر ذلك على لسان شخصياتها، ومن خلال عدسة كاميرتها التي تتجول في الأزقة الضيقة وبيوت المخيم. وكأن ذلك أصبح علامةً مميزةً للفيلم.

عوضاً عن كل الفيضان الصوري غير المجدي الذي كدسته منصور على أحاديث شخصياتها، أوقفتنا أمام انهمار دموع فتاة صغيرة اشتاقت لوالدها وبيتها وأصدقائها في مخيم اليرموك.

لوهلة لم نفهم لماذا تشتاق الفتاة وتبكي، لأن منصور اختارت أن تفاجئنا بروي حكاية عن الاشتياق للعائلة، وليس تسجيلاً وتوثيقاً لشهادات شخصيات هجرتها الحرب.

وربما دفعنا هذا للتساؤل أين ذهبت كارول بدموع باقي شخصياتها؟ لا تخلو بعض لقطات الفيلم من الاستجداء والتعاطف مع الأبطال المقهورين، وقد عملت المخرجة على تأكيد هذه الحالات العاطفية وإطالتها، من خلال سماحها للشخصيات بالبكاء أمام الكاميرا فترة طويلة دون أن يؤثر ذلك على البنية الدرامية وحبكة الفيلم، بل إنه زاد من التأثر والتعاطف بدل أن يفسح المجال أمام المتلقي للتفكير والمحاكمة العقلية. وأضعف قوة قضية اللاجئ. زد على ذلك أن تأثر الشخصيات، وربما المخرجة، أمام الحنين الذي أصابهم من ذكرى الأمكنة، كان من شأنه أن يأخذنا من الحكاية العامة والنقطة الأساسية المراد بها الحديث عن اللاجئ الفلسطيني السوري في لبنان، إلى حكايات صغيرة نتابعها على لسان أصحابها. وهذا ما غاب عن ذهن المخرجة؛ والتي لم تشفع لها أصولها الفلسطينية التي لربما تناستها أمام دموع وقسوة تجربة أبناء جلدتها؛ وهي التي تحمل جنسية كندية تجنبها مرارة امتحان الشتات الفلسطيني في نسخته السورية.

فقد كان من الأجدى بها أن تجد طريقة فعلية للسرد تبعدها عن الدموع والتعاطف الرخيص الذي كرهه أصحابه، ولأنها ابتعدت عن الجوهر الحقيقي للفيلم الوثائقي، ووضعتنا تحت تأثير الانفعال والضغط النفسي الذي أصبحت شخصيات الفيلم عالقةً فيه وتدور حوله، ما دفعها للبكاء أمام كاميرا منصور، والتي لا يبرر لها فكرة فيلمها تعاطفها الكبير مع هذه الهجرة.

فيما لو استوقفنا التسويق الفني للفيلم سنرى أنه يقدم خلال 43 دقيقة صوراً مأساوية للمتلقي الاستشراقي الذي يبحث في أسباب اللعنة التي وقعت على الأرض، ويمازج أحلامه مع واقع دموي شرد أهل المكان، وبعث بهم لأمكنة تصعب فيها الحياة.


(سورية)

المساهمون