"لا تصالح"… الشعر ضدّ السياسة

"لا تصالح"… الشعر ضدّ السياسة

28 نوفمبر 2015

مقطع لدنقل مكتوب على حائط مهدم في دوما (فيسبوك)

+ الخط -
مكانةٌ مميزّةٌ تحتلّها قصيدة أمل دنقل "لا تصالح"، في الثقافة العربيَّة المعاصرة. هي نصٌّ متخيَّلٌ على لسان كليْب، نداءٌ أخير لأخيه الزير سالم، قبيل أنْ يُقْتَل كليب غدرًا على يد جساس، وذلك في قصّة "الزير سالم" المشهورة في التاريخ العربي، والتي نقلها الشاعر السوري ممدوح عدوان من مستوى الحكاية الشعبيّة إلى الأدب المكتوب المُدوّن. ممّا تقوله القصيدة: "لا تصالحْ / ولو منحوك الذهب/ أترى حين أفقأ عينيك/ ثم أثبت جوهرتين مكانهما/ هل ترى..؟/ هي أشياءُ لا تشترى/ لا تصالح على الدم.. حتى بدم/ لا تصالح ولو قيل رأس برأسٍ/ أكلُّ الرؤوس سواءٌ؟/ أقلب الغريب كقلب أخيك؟/ أعيناه عينا أخيك؟: وهل تتساوى يدٌ.. سيفها كان لك/ بيدٍ سيفها أثْكَلك؟".
الباعث الأساسي لكتابة هذا المقال انتشار هذه القصيدة بكثرة على صفحات التواصل الاجتماعي لعدد كبيرٍ من الناشطين والمثقفين السوريين، كما أنَّ صديقاً قد قام بمشاركة هذه القصيدة على صفحته الفيسبوكيّة، وهو طبيب سوري يقيم في غوطة دمشق، التي ترزح تحت حصارٍ يطبقه الجيش السوري النظامي والمليشيات الأهليّة الطائفيّة ومقاتلو حزب الله. نشر الصديق القصيدة، بعد الهدنة المؤقّتة التي جرت في الغوطة الشرقيَّة، بين "جيش الإسلام" (أكبر فصيل عسكري معارض في الغوطة الشرقيَّة) والنظام السوري وحلفائه. كانت الهدنةُ تمريناً للتعبير الواقعيّ عن الحراك السياسي والديبوماسي الدولي والإقليمي في فيينا، وهي محاولة لتطبيق خطة إطلاق نار موضعيَّة، واختبار التزام كل الأطراف بالخطّة، للبدء بعملية سياسيّة بطيئة ومتدرّجة. ولكن، تقف القصيدة بالنقيض من كل هذه العمليَّة، فكيف ستتصافح "يد سيفها كان لك" مع "يد سيفها أثكلك".
والحال، ثمّة قراءتان مؤسّستان تُستَخْلَصان من القصيدة. الأولى، شعريّة أدبيَّة، تحتكم إلى معايير الجمال، وتقاليد اللذة الأدبيَّة، وتنظرُ للقصيدة بوصفها نصّاً شعرياً، يجمع بين الرشاقة اللغوية البسيطة والتحدّي الشخصي اللذيذ وأسطرة الألم الفردي. أمَّا القراءة الثانية، فهي سياسيّة صراعيَّة، تنظر للقصيدة بوصفها موقفاً سياسيّاً أخلاقيّاً، ووصْفَة ممتازة لأي نزاع سياسي - اجتماعي مستدام وعنيف.
الإشكال الذي تحاول، هذه المقالة، أن تجيب عليه، هو السؤال: أي قراءة ستنتصر في قصيدة "لا تصالح"؟ ومتى تزيح القراءة السياسيَّة الصراعيَّة القراءة الجماليّة الفنيَّة، أو العكس؟ في الواقع، ثمَّة تشابه بين هذا التساؤل والنقاش الأزلي المستمر والدائم والراهني، حول تأويل النص القرآني وتفسيره.
يتركّب الاتجاه التفسيري في قراءة أي نصّ من تفاعل طرفين أساسيّين، وضعيّة القارئ، لحظة القراءة، مع المعنى الرمزي الكامن في النص المقروء. أي أنَّ فهم النص يتشكّل من ظروف القارئ السياسية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية والنفسية والمذهبيَّة من جهةٍ، ومن المعنى المحتمل في النص، والقادر حصراً على إكساب بعدٍ ثقافي ما لواقع القارئ المعاش في تلك اللحظة التاريخيَّة من جهة ثانية. تختار ظروف الواقع الملموسة المعنى المندرج بين جملة المعاني المتعددة في النص، وليس ثمّة معنى وحيد مطلق في النص، يُهندِس الواقع العياني. أي أن قارئاً في سورية، في الغوطة الشرقية، فَقَدَ قريباً له على يد مليشيات آل الأسد، وبَلَعَ، على مدى أربع سنوات، مقادير مروّعة من العنف الأهلي المشخصن، فإنَّ القراءة السياسية الصراعية لقصيدة "لا تصالح" هي ترياق نفسي ممتاز، وحقن ثقافي فعّال. كما أنَّ تجميد السياسة وجوهرة النزاعات، كما تدعو إليه القصيدة، ملمح أصيل لدى أطراف النزاعات الأهليَّة، أو الصراعات السياسية المستدامة، فكل الرؤوس ليست سواءً، والخصام جسدّي مطلق.
في حين أنّ قارئاً يعيش في ظروف واقعيَّة مستقرة، ولا يتعرّض لعوامل وضغوط، ويقرأ القصيدة على الأريكة المريحة، فإنَّ القراءة الأدبيَّة الجمالية المعنوية ستغلب القراءة السياسية الجسدية العدميَّة.
تشترط عودة السياسة إلى سورية غلبة القراءة الثقافية على التأويل السياسي في قصيدة "لا تصالح". السياسة في مكان وقصيدة "لا تصالح" في مكان آخر. والسياسة، هنا، بالضبط منع فقء عيون إضافيّة، وقطع رؤوس أخرى.

دارا عبدالله
دارا عبدالله
كاتب سوري يقيم في العاصمة الألمانيّة برلين، من مواليد مدينة القامشلي عام 1990. له كتابان: "الوحدة تدلل ضحاياها" (صادر عام 2013) و"إكثار القليل" (صادر عام 2015). يدرس في كليّة الفلسفة والدراسات الثقافيّة في جامعة "هومبولدت" في برلين. من أسرة "العربي الجديد" ومحرّر في قسمي المدوّنات والمنوّعات. يمكن التواصل مع الكاتب عبر الحسابات التالية: