"سونا" لا تسكت في الهند: تمرّدُ مغنّيةٍ مُفعمةٍ بالرفض والإبداع

"سونا" لا تسكت في الهند: تمرّدُ مغنّيةٍ مُفعمةٍ بالرفض والإبداع

28 اغسطس 2020
سونا موهاباترا: تمرّد وتحدّيات وتصالح مع قناعات (برابْهاس روي/Getty)
+ الخط -

تضع المخرجة الهندية ديبتي غوبتا لوثائقيّها عن المغنية الشهيرة سونا موهاباترا (1976) عنوانين: أحدهما رسمي "اسْكُتِي سونا"، والآخر يظهر في نهايته، محْذوف منه فعل الأمر "اسْكُتِي" بالخط الأحمر، فيُصبح "سونا". سونا غير المُؤتَمَرَة، الحرّة في قول ما تريد قوله. ولأنّ الحذف فعل سينمائيّ، مع ما يبدو فيه من فجاجة فكرة ومباشرة، فالسياق الدرامي الوارد فيه كفيلٌ بمنحه منطقاً سينمائياً، يُبرِّر الفعل، ويجد له مسوّغات.

لن تحتاج المخرجة والمصوّرة غوبتا إلى جهد كبير لإيجادها: شخصية المغنية الشابة ومواقفها تُسهِّل هذا. صراعاتها مع تيارات دينية محافظة، وإشهار رفضها لأبويّة موسيقية هندية، ومعاندتها ذكورية متجذّرة، لا تُبرّر فعل الحذف فقط، بل تُغْنِي وتُعقِّد معانيه في آن واحد. مواقفها اليومية، الرافضة لمجاراة السائد، تُصَعِّب أيضاً مهمّة السينمائيّ المعني بتوثيقها، لأنّها تجره بقوّة إلى موقع البحث في أصولها، وتحرمه من سهولة عمل "بورتريه" مسطّح عن فنانة ذاع صيتها في بلدها. بعض كلمات أغانيها، الغارفة من مثيولوجيات هندية، منفتحٌ في تعابيره عن الحبّ والعلاقة بين الرجل والمرأة، وبعض آخر يفضح أكاذيب أخلاقية، وأسلوب تقديمها على المسرح أمام جمهور جلّه من الشباب، مستفزّ ومزعج للمنتفع من التسترّ على واقع الهند اليوم، المتخمة بتشدّد طائفيّ وصراعات إثنية، والطافحة بكراهية المرأة، والمنتشر في بُنى مؤسّساتها فساد سياسي وأخلاقي. تلك الهند لا تقبل بها موهاباترا، ولا ترضى بما يفرزه واقعها، فهي تضع واقع الهند بشجاعة نادرة تحت مجهر نقدها، وتحلّله بالوسيلة التي تجيدها: الغناء.

 

 

يعاين "اسكُتِي سونا" (2019) ـ الفائز بجائزة "نقابة نقّاد الهند"، في الدورة الـ21 (17 ـ 24 أكتوبر/تشرين الأول 2019) لـ"مهرجان جيو مامي مومباي" ـ عالمَين: عالم موهاباترا، وعالم بلدها. كلاهما في العمق مُغيّبان. السينما تكشف جانباً مهماً عنهما. سونا وحيدة في مواجهاتها. تخوض حروباً شرسة بمفردها. متصالحة مع قناعاتها. طاقتها وقدرتها على التحمّل لا تُصدّق. صراعاتها تتجاوز حدود المهنة إلى مساحات أعقد وأصعب. صورة الهند في مُنجز غوبتا لا تشبه الصورة التي تتعمّد الظهور بها أمام العالم. في عمقها تعصّب ورفض للآخر المختلف. كلّ ما تأتي به المغنية، صاحبة الصوت الجميل والكلمات المنتقاة بعناية، مختلفٌ عمّا تريده الهند المتعصّبة. في الفنّ، يتضاعف الإحساس بالخيبة عند الذين يراهنون على قوّة حضور الفنان وتأثيره في مجتمعه، حين يكتشفون توافق بعض هؤلاء مع مسارات فكرية رجعية، تعزّز حضوراً "ذكوريا"، وتَسكُت عن تدخّلات.

الغناء والفنّ حقلان هنديان ذكوريان بامتياز. هذا يفضحه مسار وثائقي كشّاف. قلّة من الموسيقيات والفنانات تحصل على فرص للمشاركة في حفلات يقدّمها مغنّون وفنانون ذكور مشهورون. النصّ المثيولوجي يُجيَّر للتحريم. تواجه سونا، طيلة الفيلم (90 د.)، مجموعة تدّعي عليها استهتارها وخرقها "حرمة" نصوص صوفية، تقدّمها بملابس غير محتَشِمة، لا تتلاءم مع قدسيتها. زعماء ديانات متناحرة يتّخذون من كلمات أغانيها وسيلة لتجديد صراع ديني دفين. فنّانون وموسيقيون ينفرون من إصرارها على المضي في طريقها. لا يريد كُثر منهم أنْ يكون لها صوت خاص. دعاة "الورع والتقية" يطلبون منها السكوت، ولا بأس أنْ تغنّي أغنيات عادية.

المُدهش في سلوكها الفني شدّة جدّيتها ومثابرتها على البحث وتقصّي حقيقة النص الذي تغنّيه. مرافقة الوثائقي لها، في رحلاتها إلى موطن الأشعار الصوفية والهندوسية والبوذية، مُدهشة. كلّ أغنية لها مقرونة بمعرفة تاريخية وبحث في الأصول. تدحض "ذكورية" النص بالأمثلة: في أشعار ميرا، الزوجة الروحية لكريشنا، لا انفصال بين الروحيّ والجسدي، وفيها بوح عن مشاعر حسية لا يقوى على الاعتراف بها من يدّعي تمثيلها اليوم.

في الهند، وعند مجاميع بشرية كثيرة، يُحرَّم على المرأة الغناء الديني. هذا تكشفه رحلاتها صحبة كاميرا ظلّت قريبة منها ومُحبِّة لها، التقطت ما لا تبيح به كلمات أغانيها علناً إلا بعد تمحيص. "اسكُتِي" مطلب الكارهين طقوس عروضها الجماهيرية، المصحوبة دائماً بشرح شفهيّ لأغانيها الجديدة، تجلي بها عمق معانيها ومصادر إلهامها. تصاحبها عادة دعوات للمساواة بين الجنسين، وإلى صون حرية التعبير والتخلّص من التعصّب.

حداثوية أدائها وشبابية أغانيها لا تحجبان عمقها. السرّ ـ الواصل إلينا عبر اشتغال سينمائي مهمّ جداً، والمترع بالموسيقى المصوَّرة بكاميرا خبرت فنّ الـ"فيديو كليب" ـ يُعلن من دون مواربة انحيازه إلى اسم سونا ومواقفها.

المساهمون