"زينديجي هيه"، هنا الحياة!

"زينديجي هيه"، هنا الحياة!

30 نوفمبر 2015
لوحة للفنانة الفرنسية إيزي أوكوا (Getty)
+ الخط -
أغرا، مدينة "تاج محل"، الهند. الثامنة صباح 21 أكتوبر/تشرين الأوّل 2015.
كنتُ واقفاً في ركن شارع شعبي، أحدّق في منظر يتكرّر بشكل أو بآخر في كل شوارع الهند، لعلّه أدقّ وأفضل ما يلخصها:
على يميني سبعة صبيان يلعبون كرة القدم. على يساري طاولة بائع شعبيّ لفطائر وتوابل لاذعة. أمام الطاولة بضعة شباب واقفون يتناولون فطورهم. آخرون يغرفون بوعاء، ماءً من برميل ملتصق بالطاولة، يغسلون به وجوههم.

شاب آخر واقف قرب البرميل، يرقص من صباح الله الباكر على أغنية جماعية، يصغي إليها من جهاز آيبود في أذنيه، تتسلل أنغامها إلى أذني، عرفتها سريعاً: إحدى أغاني فيلم الموسم البوليوودي: "شاندار" الذي شاهدته البارحة.
في الطائرة، كتبت في مفكرتي الإلكترونية: "زنديجي هيه" أي: هنا الحياة.

اقرأ أيضًا: لغة آدم

في نهاية كل رحلة لأي بلد يراودني خوف أزرق ألا أعود إليه، لسبب أو لآخر. أتلو في أعماقي دعوات غامضة للعودة إليه ثانية. لكن خوفي مضاعف هذه المرة: أخشى ألا أرى ثانية، منظر هؤلاء الشباب الذين يلعبون الكرة بسعادة في ركن كل شارع هندي، وهؤلاء الواقفين لتناول الفطور، وكل ما يمرّ بينهما: بقر بوهيمي حرّ، جميلات عليهن فساتين الساري الأنيقة السعيدة، فيل فاتن يتمخطر بصمت، جِمال تجرّ عربات بضائع أو علب "الدابا والا" للفطور في المكاتب، دراجات تاكسي، كلاب، عربات توك توك، غنم، رجالٌ بـ "فوط" ملوّنة تشبه الفوط العدنية التي يرتديها العدنيون، مواكب احتفالات دينية هندوسية راقصة بهيجة، ألوان متجدّدة. أعشق هذه "الماسالا" الهندية، سأختنق إن لم أعد إليها ثانية!

التقيت في العصر في مقهى بمراهق شكا لي خيبات حبّه المكسور، وقرأ لي قصائد غرامية كتبها بالإنجليزية. فكتبتُ مباشرة في صفحتي على الفيسبوك منشوراً عنه اختتمته بـ: "ألمهُ بوليووديّ بامتياز!". وردت عليّ رفيقة عزيزة: "لا تسخر، أو تستهِن بهذا المراهق!".

اقرأ أيضًا : جاسوس في أمعاء كومبيوتر

لعلّها، هي المعادية للهيمنة الإمبريالية مثلي، تردّد بلا وعي تأثير الثقافة الاستعمارية التي علمتنا الإعجاب بالسينما الغربية، وعدّ ما عداها دونياً. صدمني في الحقيقة تعليقها المخلص، أنا المغرم بسينما بوليوود والهندية عموماً، وذلك منذ طفولتي العدنية المترعة بالثقافة الهندية، الآتية من عصر انتماء عدَن للكومنولث.

علقتُ: "عزيزتي: أعتبر السينما الهندية مدرسة في الكوميديا الغنائية، في الدراما اللاذعة، في اشتعال العواطف. أحب ملامستها ومعالجتها الحميمة للقضايا الاجتماعية، براءتها، بهجتها، فلسفتها الإيجابية في عالمنا الذي يغرق في السوداوية والآفاق المغلقة، جراء سيطرة قوى المال المتحالفة عليه مع "غافا" (غوغل، فيسبوك، آبل، أمازون)، وجرهم سيرورة الحياة البشرية اليوم في اتجاه مصالحهم الأنانية، التي تتباعد عن مصالح الكوكب، والبيئة، وحرية الإنسان.
أعشق الهند، أعشق غناءها الجماعي، رقصها الذي يحتفل بالحياة. أغني دومًا حين أكون في بلاد إنديرا غاندي: إنديا ماي إنديا!".

اقرأ أيضًا : رحلة إلى بحيرة الأسرار

ثمة سحر هنديّ يمغنطني لا أعرف وصفه. لكن للهند موعد قريب منا جميعاً، ليس كمنبع سحر شرقي، لم يعد يجذب كثيراً أحداً في عصر الروبوتات الذكية، والسيارات بدون سائق، والطائرات بلا طيّار، وخاتم الإنترنت السحري الذي يحمل لنا من منجم "البيانات العملاقة" كل ما نبحث عنه ونتمناه، ولكن كعملاق اقتصاديّ علميّ وتقني، نموّه وتنميته يرتفعان من عام لعام، وسيهيمن على حضارة الغد، بجانب ثلاثة أو أربعة عمالقة أخر. فمعدل سكان الهند سيتجاوز الصين في عام 2030. لكن انفتاح الهند وجذبها سيكون أشدّ من الصين التي يعزلها سور صيني أبدي عن العالم: لغتها ذات الأسس والفلسفة الخاصة. فيما يتحدّث الجميع تقريبًا في الهند بالإنجليزية، ويستطيعون الحوار مع العالم كلّه بسهولة.

ثم للهند فلسفة في الحياة نحتاج أن ننهل منها، ونحتذي بها أحياناً. فلسفة تجعل اندماج أهلها ببلدهم، رغم الفقر المدقع هنا وهناك، عميقٌ جداً. فحسب الإحصائيات المتخصّصة لا يفكّر إلا 27٪ من سكان الهند في الهجرة للعمل خارج الهند، بينما تصل النسبة إلى 45٪ في بولندا، وتصل إلى نصف المسافة بين النسبتين في الصين.

غير أن ثمّة ظاهرة لمستها بقوة وأثارتني شخصيّاً كثيراً جداً: طلاب الهند الجامعيون. فطلاب العالم خارج الهند، كما ألاحظ في فرنسا وأوروبا والصين وأميركا والعالم العربي، يتغيّرون من عام لعام، من سيء إلى أسوأ في نظري، منذ أن عزلَتهم كليّةً، سمّاعات الآيبود وأضحتْ ديدنهم الدائم. ولا يستطيعون عدم النظر إلى الآيفون كل خمس دقائق، حتّى وهم وسط محاضرة.

بسببه فقدتْ أدمغتهم المقدرة على تحمّل رؤية صيغة رياضيّة على سبّورة خلال دقيقتين.
طلاب اليوم: أبناء عصر الصورة الرقمية. الآيفون باليد اليمنى، الآيباد باليسرى، والماكينتوش بالوسط، والعين على ساعة آبل في المعصم. لو كانوا يقرأون على شاشتها على الأقل: "هكذا تكلَّم زرادشت" لنيتشه، أو "رسالة الغفران" لِأبي العلاء المعرِي، لخفّ غضبي قليلاً.

إذا كان مستواهم التقنيّ اليوم عال جداً بالنسبة للأجيال السابقة، فإن مستواهم العلمي والمنطقي أكثر فأكثر ضعفاً وضحالة، لأسبابٍ عديدة مرتبطة بجوهر اتجاه حضارتنا الجديدة.
عدد كبير منهم لا يعرف ما يعني في الرياضيات: "شرط ضروري وكاف"، أو فكرة "البرهان بالتناقض". ومع ذلك هم في منتصف دراستهم الجامعية في الهندسة والعلوم أحياناً!.
تختلف هذه الظاهرة في الهند كما لاحظت شخصيّاً وأنا أدّرس وأحاضر فيها، وشاركني الرأي، زملاء درّسوا وألقوا محاضرات في دولٍ عديدةٍ مختلفة. جميعنا منذهل من طريقة إصغاء الطالب الهنديّ وتلقيه، وحبِّه للرياضيات والعلوم النظرية في الكمبيوتر وغيرها. ومقدرته على التركيز طويلاً للبحث عن حلٍّ وبرهان قد يستغرق ساعات.

صِرتُ وزملائي نفسّر ذلك، ونحن نبلع حسراتنا، ببركات ممارسة اليوغا في الهند!
إذ صار ذلك نادرًا، بل مستحيلًا في بلدٍ آخر يبحث فيه الطالب عن الحلّ الجاهز، لأي تمرين أو سؤال، بفضل الإنترنت، وينتظر من العلوم أن تكون غذاء ماكدونالديّاً سريعاً جدّاً.

في المساء، أحبّ ركوب دراجة مع أصدقاء هنود وزملاء أجانب. أجدُ نفسي في طرقٍ ضعيفة الإضاءة غالباً، تتخلّلها النتوءات والحفر. أعود أحياناً بوشم صغير في المعصم أوالركبة، يسعدني جدّاً إذ يذكّرني بـ "إنديا، ماي إنديا"، بانتظار زيارة أخرى.

المساهمون