"زانا" وحرب كوسوفو: تصويرُ أكثر التعابير حدّة

"زانا" وحرب كوسوفو: تصويرُ أكثر التعابير حدّة

27 يوليو 2020
"زانا": استعادة حربٍ وتأمّل في راهنٍ (الملف الصحافي للفيلم)
+ الخط -

 

تريّث السينمائية أنتونيتا كاستراتي في الشروع بمراجعة حرب كوسوفو قبل 20 عاماً، التي عاشت جزءاً منها وخسرت خلالها أمّها وأختاً لها، مدعاة إلى التأمّل في فكرة التريّث نفسها، وبعض أطراف سجال منحاز إلى منح المبدع الزمن الكافي لتأمّل الحدث، بعيداً عن الانفعالات الآنيّة والحماسة المدفوعة بقوّة الإلحاح والتأثير الخارجي. هذا الجدل، المفتوحة أبوابه، وميل المخرجة إلى قطب مركزي فيه، يقبلان تأمّلاً طويلاً قادها إلى كتابة نصّ "زانا" (2019)، المتخلّص من تأثيرات سيرتها الشخصية، بعد عقدين على التجربة المُعاشة.

بعد انتهاء الحرب، أي حرب، يندفع الناس إلى نسيانها. لا يريدون تذكّر أهوالها وبشاعاتها. قوّة الحياة والرغبة الغريزية في عيشها تدفعانهم إلى ذلك، فيبنون ـ من دون وعي منهم ـ حواجز تمنع تذكّرها. يصنعون للنسيان غلافاً واقياً، ويندفعون جماعةً إلى ترميم أي ثغرة تظهر فيه، فهم لا يريدون مطلقاً وجود ما يُزعزع طمأنينتهم الهشّة.

من دون إرادتها، وبفعل الحرب نفسها، تزعزع لومه (أدريانا ماتوشي)، المرأة الثلاثينية الحيوية وشديدة البأس، تلك الطمأنينة، بأحلامها المخيفة وكوابيسها الليلية غير المنقطعة منذ موت ابنتها زانا على أيدي أفراد من القوات المسلّحة لـ"جمهورية يوغسلافيا الاتحادية"، المندفعة حينها بوحشية إلى منع فكرة قيام دولة كوسوفية مستقلّة عنها.

لم تحمل لومه، بعد موت ابنتها، جنيناً في بطنها. بسبب عُقْمها، تواجه متاريس بشرية لا تقبل إلا بما يضمن ديمومة نسيانها، وما مولد طفل جديد إلا خطوة أولية نحو نسيان الماضي وضحاياه. العجز عن الاستجابة يزيد آلامها النفسية، ويدفعها إلى انعزال وانقطاع مع كلّ ما من شأنه بعث حياة جديدة داخلها. وعبر الأوجاع النفسية وألم الذكريات، تدخل كاستراتي إلى حرب البلقان، وتراجع تاريخاً لا يستقيم حاضرُ من عاشه من دون نظرة فاحصة منهم، لما فيه من حوافز تقبل تكرار ما جرى ثانية، والتوقّف ملياً عند ما أحيته من شوائب ماضٍ عجّلت في صعودها إلى السطح. في كتابتها تلك، تجنّبت إعادة تكرار أنماط سردية مستهلكة لحالة "ما بعد الصدمة". السيناريو، الذي كتبته بمشاركة كاسي كوبر يوهانسون، ينفتح على حساسيات مجتمعية وتعقيدات ثقافية، تزيد من غرابة حكاية أخذت منحنى متفرّداً في صوغ مكاشفة جريئة لا تتوقّف عند "الجلّاد" فقط، بل تتوسّع نحو المتشاركين معه من "الضحايا" في تعميق أوجاع امرأة، لم تجد تعاطفاً كافياً معها ولا فهماً إنسانياً لعجزها عن إنجاب طفل، خوفاً من تعرّضه للمصير نفسه الذي تعرّضت له طفلتها.

المصير المؤلم لـ"عَمَارة": عارٌ استعماريّ

بدلاً من التسهيل، يوغل "زانا" في التعقيد ليمنح "الضحية" المزدوجة مساحة جيدة للتعبير عما يجتاح دواخلها من وجع لم ينقطع. تكشف أنتونيتا كاستراتي ما أحيته الحرب من معتقدات خرافية، آمن الناس بها في زمن مضى، وحسبوا أنّهم تخلّوا عنها في زمن "التحضّر الغربي". الرغبة الشديدة في نسيان الحرب لا تستنكف استعادة الماضي بترسّباته وخرافاته. هذا يفسّر تعرّض الأم الثكلى لأصناف من الاختبارات الجسدية العنيفة والنفسية المؤلمة. سَحَرة ومشعوذون يمارسون طقوسهم عليها وسط رضى عام وسائد، لا يتورّع عن التهديد بإحضار زوجة ثانية لزوجها إيلِر (أستريت كباتشي) لتقوم بما تعجز عن القيام به، أو ترفضه مجبرة.

فعل الإنجاب القسري يغدو، في "زانا" ـ المرشّح رسمياً عن كوسوفو لجوائز "أوسكار" الـ92 (9 فبراير/ شباط 2020) في فئة أفضل فيلم غير ناطق باللغة الإنكليزية، لكنّه لم ينل ترشيحاً رسمياً من "أكاديمية فنون الصورة المتحرّكة وعلومها" ـ مُرادفاً لفعل الانتقام، وتعبيراً عن شدّة خوفٍ من انكسار محتمل في جدار النسيان المرغوب تمتينه على حساب امرأة وحيدة، تقترب تدريجياً من حافة الجنون. نقلُ اضطرابها احتاج إلى أداء تمثيلي رائع، ومُصوّر يعرف أين يقف وكيف يلتقط أشد التعابير حدّة. تكليف شقيقتها، المصوّرة البارعة سِفديه كاستراتي، بتصوير "زانا" نابع من ثقتها بها، ومن معرفتها بدرجة تشبّعها بتفاصيل حكايتها.

تفاعل صانعته مع المكان ومحمولاته الثقافية، ومعرفتها بخبايا الحياة الكوسوفية، أضفيا وحدةً داخلية على تنافر وتنازع ظاهرين، سادا المشهد العام. حرصها على الإمساك بنصّها، وعدم السماح بخروجه عن السيطرة، على كثرة ما فيه من تشابك معقّد بين الحلميّ والأسطوريّ والواقعيّ، محسوسان طيلة مدّة عرضه (97 دقيقة). مسار سرده الحكائي اغتنى بالوثيقة. هناك تسجيلات فيديو لمقابر جماعية، ومشهد آخر ختامي (يوحي للمتفرّج كأنّه مُصوّر بكاميرا فيديو منزلية) تظهر زانا فيه مع والديها في عرسٍ عائلي، قبل مداهمة قوات الجيش اليوغسلافي لهم وتصفيتهم جميعاً، ما عزّز ـ مع تلك الوثائق ـ الحدث المتخيّل، المستند في العمق إلى وقائع حقيقية عاشتها أنتونيتا كاستراتي وبلدها، ولا يزالان ـ بعد عقدين من الزمن ـ متأثّرين كثيراً بها.

المساهمون