"ريلاكس" .. إنها مجرّد كورونا

"ريلاكس" .. إنها مجرّد كورونا

08 مايو 2020
+ الخط -
أحتار أين أذهب، والزبونة التي تسبقني في ثلة الانتظار أمام المتجر الصغير ترقص على وقع الموسيقى التي أطلقها المتجر عاليا لتسلية الزبائن في انتظارهم. تتمايل الشابة البيضاء في ثياب الرياضة، في كل الاتجاهات انسجاما مع الموسيقى، في حين أحاول أن أتفادى اقترابها مني. أفكّر أن الشابة التي يتجول طفلها في المتجر، ويلمس المنتجات المعروضة بحرية، تحاول أن ترفّه عن نفسها في هذا اليوم الجديد الرتيب من الحجر المنزلي في لندن. لكنها تبدو فعلا سعيدة، ولا تبدي أي اضطراب أو جهد للتظاهر بأي شيء: تتحدّث إلى البائع عن قرب، تأخذ وقتها في اختيار حاجياتها وتخرج كما دخلت في عرض راقص جديد، في حين أحاول مجدّدا أن أتفاداها وأنا أدخل المتجر. في الجمع المنتظر أنفرد وشخصا آخر في وضع الكمّامة. نبدو غريبين. 
السيدة السعيدة ليست وحيدة في اعتبار أن الخائفين من الفيروس القاتل مجرّد مهووسين يفترض استفزازهم أو مرضى يجب تفاديهم. هل شرب هؤلاء الديتول كما أوصاهم زعيم الشعبويين الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، أم أن جيناتهم البيضاء المتقدّمة تحميهم من الإصابة بالفيروس الذي يتربص بملوّني البشرة فقط أم أنهم أذكى من أن تنطلي عليهم "مؤامرة" كورونا التي تروّج أكاذيب غرضها احتجازنا في البيوت، أم أنهم من أنصار الحريات الفردية الأنانية التي لا ترى مبرّرا لأي تقييد لها حتى جائحة صحية عاتية. تعدّدت الأصناف في الانقسام بين القلقين واللامبالين في تموضع أيديولوجي جديد في عالم ما بعد كورونا.
خرجت في لندن تظاهرة صغيرة تطالب بالحق في الجسد، بما في ذلك التقارب في زمن كورونا. يصرخ أحد المتظاهرين، وهو رجل متقدم في العمر، بينما تعتقله الشرطة التي فرّقت التظاهرة أنه لن يقبل بالرضوخ لتعليمات التباعد الاجتماعي باسم الحق بالجسد. في الولايات المتحدة، تريد 
مليشيات ترامب تحرير مقاطعاتهم من الحجْر بقوة السلاح لوقف ما يرونها مؤامرة شيوعية للاستيلاء على حرياتهم. لا يكتفي هؤلاء باستعراض القوة، إنما هدفهم التحريض على كسر إجراءات الحجْر وتسفيه مؤيديها والملتزمين بها بكل السبل. تقول إحداهن إن الفيروس لا يخيفها فهي في صحة جيدة تستمتع بفيتامينات الشمس، وتعتمد على الله في حمايتها. تقول أخرى لصحافية تضع الكمّامة إن وسيلة الإعلام التي تمثلها تكذب على الناس وتصرخ بها، في حين تطلب الأخيرة منها الابتعاد عنها: ألا تريْن كيف ترتجفين وتتعرّقين من كثرة الرعب؟ أنت ترعبين العامة. ليس هؤلاء من فاقدي الأمل من المحتجين على الفساد والجوع في شوارع بيروت وطرابلس ومناطق أخرى في لبنان، ولا من فقراء مصر والهند ومناطق أخرى، حيث المساكن الشعبية ومدن الصفيح جعلت التباعد الاجتماعي مجرّد حلم، ولا هم من سكان مخيمات اللاجئين السوريين والفلسطينيين، حيث يصعب تحرّي العدد الفعلي للإصابات بين السكان الذين لا يملكون لقمة العيش قبل كلفة الكمّامة. ليس هؤلاء من الفقراء، ولكنهم ليسوا بالضرورة من الأغنياء. في ألوانهم وأصنافهم المتنوعة، يشكل هؤلاء عقبة رئيسية في وجه أي عودةٍ لحياة شبه طبيعية في خارج الحجْر للتعايش مع الفيروس.
يقدّم اللامبالون أنماطا جديدة من التمييز وأخرى معهودة، لكنها تأخذ أشكالا جديدة. الرجل (المرأة) الأبيض يشعر بالحصانة من الفيروسات، إذ ليست الأوبئة من مشكلات العالم المتحضر، بل العالم الثالث الموبوء بمشكلاته الصحية وغيرها. اعتاد أن يتبرّع بالمساعدات إذا ما أراد أن يشعر ببعض الامتنان لحظه في الولادة في نظام حضاري وثري. لا تهمه الأعداد الهائلة من الموتى الذين حصدهم الوباء من أبناء جلدته، فقد أقنع نفسه بمئات الحجج التي تبرهن أنه محق، وأن لدى الموتى أسبابهم التي لا تطاوله. تشمل هذه القناعة بعض أبناء الطبقات العمرية المتقدّمة التي يستهدفها الفيروس. لا مجال للطلب من هؤلاء وضع كمّامة، إذ كيف يمكن أن يخرجوا للعالم في هذا الشكل القبيح و"المتخلف"؟ الرجل (المرأة) الواثق بالتمتع بصحة جيدة هو أيضا لا يحتاج للقلق من الفيروس الذي يفتك بأولئك الذين لم يبذلوا جهدا مماثلا في الحفاظ على صحتهم، كقضاء ساعاتٍ في التمارين الرياضية التي باتت الهاجس الرئيسي لأصحاب نمط الحياة المتقدّم والصحي. تقول صديقتي إن ابنها مقتنع بأن الفيروس لا يمكن أن يصيبه على الرغم من الأرقام التي تتناقلها
وسائل الإعلام عن نسب عالية من الوفيات بين الشبان من غير أصحاب الأمراض المزمنة. مثله شرائح كبيرة لا تزال تعتقد أن الفيروس يتربص بالمتقدمين من العمر، أو أصحاب "السوابق" المرضية. أما الذين يشكّكون بالفيروس، باعتباره مؤامرة عالمية، فمبرّراتهم متعدّدة ومتناقضة، وإن التقت على التحريض ضد أي إجراءات حكومية للحدّ من حرية الحركة: الفيروس ليس سوى زكام قاس، بل الزكام العادي يقتل سنويا أعدادا أكبر بكثير من قتلى كورونا. مجرد فيروس تافه تحول إلى أداة في يد الأنظمة لقمع الحريات ومراقبة الشأن الخاص (وهو هم يحمله بجدّية أصحاب الاختصاص من غير الشعبويين). وأخيرا، الفيروس كذبة كبيرة، إذ من يثبت أن الآلاف يموتون منه وليس من أسباب أخرى؟ ثم ماذا إذا قرّر هؤلاء أن يموتوا، ومعهم ضحاياهم ممن نفثوا في وجوههم الوباء؟ أما الأشكال التقليدية للعنصرية، فلا جديد في غبائها كمثل الشائعة التي تتناقلها مواقع اليمين المتطرّف أن المسلمين نقلوا الفيروس إلى الغرب أداة "إرهابية" جديدة.
في النظام التمييزي الجديد، عليك أن تتفادى أن تكون من الفئات التالية: متقدّم بالعمر، حامل سجل مرضي، ملون البشرة، لا تملك ما يكفي من القدرة المالية للتباعد الاجتماعي، أو العمل من المنزل، عامل أساسي أي ممرّض أو بائع أو عامل توزيع وما شابه، خائف وملتزم بأدوات الوقاية على قلتها، ومنها التباعد عن البشر، كمثل العبور من جانب إلى آخر من الشارع، لتفادي اللقاء المباشر مع آخرين أو ارتداء الكمّامة. أشعر بغربةٍ مضافةٍ إلى غربتي، وأنا أعبر الشارع واضعة كمّامة وقفازات، ترافقني نظرة السخرية من العابرين. اعتدت أن أتفادى هذه النظرات، وأتطلع في اتجاه آخر، لكنني بت متيقنةً أن أحدهم قد يستفزني يوما ما، صارخا في وجهي: "أنتِ ترعبين العامة" أو "عودي إلى بلادك بكمّامتك" على أمل أن تنقضي العملية بمجرد الصراخ. إنها ليست لندن يا عزيزي.
A6CF6800-10AF-438C-B5B5-D519819C2804
فاطمة العيساوي

أستاذة لبنانية في جامعة إيسيكس البريطانية. ترأست بحثا في تأثير عملية الانتقال السياسي على الإعلام المحلي في دول الثورات العربية. صحافية مستقلة ومدربة وخبيرة في التشريعات الاعلامية في العالم العربي.