"رابعة" مذبحة مجتمع

"رابعة" مذبحة مجتمع

19 اغسطس 2014
+ الخط -

"رابعة" لو لم تكن مذبحة العصر الحديث في مصر، لما ارتعدت السلطة الانقلابية، بكل مكوناتها وأجهزتها وأسلحتها، وروافدها وشبكتها العميقة، من مجرد رفع شارتها الرمزية الصفراء في أي مكان، وبأية صورة، ولو كانت في صورة دبّوس على حجاب فتاة، أو كانت مطبوعة على مسطرة تلميذ، فتصدر من أجلها القوانين، وتفتح لها أقسام النيابة، ويتحرك من أجلها الجند، وما ينطبق على سلطة الانقلاب، ينطبق بالضرورة على جمهوره ومؤيديه، ومفوضي قائده بالقتل، بالدرجة ذاتها، فقد حرص قائد الانقلاب، منذ اليوم الأول، على أن يشاركه الجميع فيما يفعل، حتى يكونوا جميعاً في الجرم سواء.

ولهذا يريدون، جميعاً، نسيان الجريمة ومسحها من الذاكرة، ولو بارتكاب جرائم أخرى، في سبيل ذلك الهدف المستحيل، لأنها جريمة لا تنسى، ولن تنسى، حتى بعد القصاص ومحاكمة القتلة، وتحقيق الحلم، الذي من أجله دفع شهداؤها أغلى ما يملكون، من أجل الحق والعدل والكرامة، وانتصاراً للإرادة والحفاظ على الحق في تقرير المصير.

ورابعة ليست مجرد مذبحة، يجادل الحمقى فيها بشأن عدد القتلى، وكأن المشاعر الإنسانية لديهم مقيدة بالعدد، سواء كان كبيراً أو صغيراً، فلا يدركون أن الله تعالى جعل قتل النفس الواحدة، كقتل الناس جميعاً.

وإن كنا قد صدمنا من موقف مصريين تجاه العدوان الصهيوني على غزة وأهلها، واكتشفنا أن فيروس التصهين قد حل في وجدانهم الوطني والعروبي والديني، فإن تلك الصدمة تزول عندما تحل الذكرى الأولى للمذبحة، التي شهدت على وجود فيروس العنصرية في نسيج المجتمع المصري، فالسلطة الانقلابية لم تقدم جديداً في ارتكابها لمذبحة كانت متوقعة، وسبق لها الفتك بغير شهداء المذبحة، في حوادث سابقة عليها، في الحرس الجمهوري والمنصة، كما أن هذه الحكومة الانقلابية، وإن كانت أكثر قسوة وبشاعة من غيرها، إلا أنها لم تكن بدعاً من الحكومات العسكرية المتعاقبة، وكل الذي اختلف أنها سلطة انقلابية.

وجدت في عصر المعلومات والفضاءات المفتوحة، التي لا تقبل التحكم والسيطرة بطبيعتها، جاعلة من جرائمهم مادة حيّة ومصّورة، كما أن تلك الحكومة الانقلابية جاءت بعد ثورة وعي شعبية حقيقية، في الخامس والعشرين من يناير/كانون الثاني، كسرت حاجز الخوف إلى الأبد، ولكنّ جانباً من المجتمع المصري هو الذي جاء بالجديد في تلك المذبحة، وجديده كان العنصرية.

تلك العنصرية هي التي جعلتهم تربة خصبة لوسائل إعلام ملوثة بالتمويل الحرام، ونخبة مزيفة تستثمر في بعضهم الجهل، لتصور لهم ولأول مرة، أن مصر بات فيها "عرق" جديد، يستحق الاستئصال والذبح، لأنه الخطر الأكبر على الأمن القومي للبلاد، وذلك العرق اسمه "الإخوان المسلمون"، الذي يتكون من جيرانهم وأقربائهم ومعارفهم، وربما من أشقائهم أيضاً، رغم أن رواد ميدان رابعة، لم يكونوا جميعاً من ذلك العرق المزعوم، الذي "احتل" مصر في انتخابات حرة ونزيهة، لم تشهدها البلاد من قبل، ولم تشهدها من بعد الانقلاب، ولهذا بدؤوا، قبل الانقلاب بكثير، بترويج لفظة شديدة البذاءة، عندما تطلق على إنسان، وهي لفظة "الخرفان" لتكون متسقة مع النحر الأكبر، الذي تم في مثل هذا اليوم، على مرأى ومسمع ومباركة من ذلك القطاع المجتمعي، الذي قابل الجريمة بالرقص والغناء، وتسلم الأيادي.. وتسلم الأيادي.

ولهذا، فإن رابعة ليست مجرد مذبحة سلطة انقلابية غاشمة، تستحق الكفاح المشروع للقصاص لشهدائها من مجرميها، بل مذبحة مجتمع كامل، ظل طوال عقود يردد على نفسه أنه "مجتمع متدين بطبعه" مع اختلاف مضمون ذلك التدين عند كل فرد من أفراده على حدة.

avata
avata
أحمد قاسم البياهوني (مصر)
أحمد قاسم البياهوني (مصر)