"رابعة" .. اسمها مذبحة

"رابعة" .. اسمها مذبحة

21 اغسطس 2015

مئات يتظاهرون في نيويورك إحياء لذكرى مذبحة رابعة (Getty)

+ الخط -
حدث ذلك قبل "موضة" أشرطة القتل السادي الفائقة الجودة من إنتاج جماعة داعش. كان قتلاً من نوع آخر: قتلاً جماعياً لمجموعة اتفق النظام وإعلامه على إلصاق رواية مغايرة تماماً لقتلها، حولت الضحية إلى وحش، يجب ردعه بكل السبل. كان قتلاً صامتاً ما فتئ النظام يجهد في طمس معالمه وإخفاء أثر ضحاياه. وهو يحاول أن يطمس قصة هؤلاء إلى حد تغيير اسم الميدان الذي حمل آثار دمائهم. 
كان التخصير لعملية فض اعتصام أنصار الإخوان المسلمين في تجمعي رابعة والنهضة في القاهرة، وتجمعات أخرى خارج العاصمة، قد استمر أسابيع على وقع حملات متصاعدة، للتحريض على العنف في التعاطي مع المتظاهرين على أساس أننا "هرمنا ونحن ننتظر الفض"، بحسب صحافية مصرية مرموقة، على صفحتها في "فيسبوك". قبل الانقلاب، كانت الإعلامية المرموقة تجوب المنتديات الإقليمية تتحدث عن ثورة يناير وشعوبها. ومثل كثيرين غيرها، كان تحولها سريعا من شعارات الاعتراض على قمع الحريات في ظل حكم "الإخوان" إلى الترحيب بالقمع بكل أنواعه تحت حكم العسكر باسم الاستقرار.
خلت ساحة التغطية الإعلامية في ميداني رابعة والنهضة في يوم الفض، إلا من مراسلي وسائل الإعلام العالمية والإقليمية، وقلة قليلة من الصحافيين المصريين. كان مراسل صحيفة إندبندنت البريطانية المراسل المخضرم، روبرت فيسك، يتنقل بين تجمعات المعتصمين، ويرد على أسئلة قناة الجزيرة الإنكليزية. يسأله المحاور: هل أنت خائف؟ يجيب: نعم. سائقي خائف ويريد العودة. يسقط مراسل قناة سكاي البريطانية، مايكل دين، قتيلا برصاصة في القلب في ظروف لم تتضح. ومثله تسقط مراسلة "غالف نيوز"، المصرية حبيبة عبد العزيز، برصاصة في الرأس، إلى جانب مراسلين اثنين آخرين. هل أخافت الكاميرا الصحافية مطلقي النار إلى حد اصطياد حاملها، بالقلب أو بالرأس، لكي لا يخطئ القاتل ضحاياه؟

على الشاشات المصرية قصة مغايرة تماما: إرهابيون مسلحون يهاجمون مؤسسات الدولة، وخصوصاً كنائس الطائفة القبطية، ما يستوجب ردا حازما من الجيش، لحماية الدولة من الانهيار. يعمم التلفزيون المصري صورة لمسلح واحد بين الحشود، باعتباره دليلا قاطعا على عنف المتظاهرين. تقدم محطة خاصة قصةً أكثر غرابة، لتقول إن الجثث التي سقطت ضحية الفض الدموي قتلت على يد "الإخوان المسلمين" أنفسهم، وتم نقلها سراً، ودفنت هناك، لاستخدامها حجة لاتهام قوى الأمن. تأخذ عمليات التزوير الإعلامي أشكالا غرائبية، في حين يخلو الميدان ممن يفترض أنهم هنالك يكشفون الوقائع على الأرض ويتابعونها. تتواصل عملية الفض الدموية، في حين تتواصل حلقات التوك شو والحوارات المتلفزة، بعيداً عن الميدان، حيث خبراء بينهم مسؤولون في نقابة الصحافة، يتحدثون عن ضرورة قمع المعتدين "الإرهابيين" إنقاذاً للدولة وهيبتها. في وسائط التواصل الاجتماعي، تنفجر فاشية مقزعة. تسقط كل الأقنعة: اقتلوهم، افرموهم، احرقوهم... تعترض الصحافية المرموقة على دعوات لتجنب قصف المستوصف داخل مخيم المعتصمين في "رابعة". اقتلوهم كلهم، لا رحمة، تقول. يعلق بعض آخر، مقترحا حقن المعتصمين بالسم، في حين يرى آخر استخدام طريقة المحارق النازية. يسخر آخرون من "بتوع حقوق الإنسان" الذين ارتفعت أصواتهم بالاستنكار. يتحول "فيسبوك" إلى وحش مصاص للدماء يطلب المزيد. يصبح المصدر الأكثر أمانة في نقل الواقع في بشاعته التي لا تحتملها إنسانية.
سوف ننتطر تقرير منظمة هيومان رايتس ووتش الذي اعتبر أعمال القتل في يوم الفض أسوأ أشكال العنف على يد الدولة في تاريخ مصر الحديث، حتى يخرج تعبير"مذبحة" في وصف أعمال القتل ضد متظاهرين غالبيتهم العظمى مسالمون. لم يتبنّ الإعلام المصري التقرير، بل شن حملة كبيرة ضده، فعناوين الصحف خرجت باردة في اليوم التالي للمذبحة، لتتحدث عن "مواجهات" بين الجيش ومتظاهرين، انتهت إلى سقوط قتلى، بما في ذلك في صفوف قوى الأمن. أصوات قليلة خرجت لتأسف على " الدم المصري" من دون أن تجرؤ على تسمية الأمور بأسمائها. حدثت مذبحة هنا، ولا يريد أحد أن يسميها باسمها، طالما أن الضحية هم الخصوم الملعونون المطلوب التخلص منهم.
يقبع المصور الصحافي محمود أبو زيد (شوكان) في السجن، ما يزيد على عامين الآن، في توقيف احتياطي يتم تمديده باستمرار من دون محاكمة. يعاقب شوكان لقيامه بما يفترض به كصحافي مهني: أن يلتقط بكاميرته صور جثث القتلى في الميدان. يكتب في رسالة من سجنه "أصبحت الصحافة في مصر جريمة بكل المقاييس، فيعاقب الصحافي بالسجن، بمختلف أشكاله وعقوباته، سواء بالمؤبد أو نصف المؤبد أو الحبس الاحتياطي فترات طويلة. مجرد أنك تنتمي لمهنة الصحافة، فهذا يعني (فقط في مصر) أنك طرف في الصراع السياسي".
لا شك لدى النظام أن المصور الصحافي ليس طرفا في صراع سياسي، وأنه كان يقوم بمجرد عمله. بذل النظام جهداً جباراً في قمع الرواية الصحافية المستقلة منذ الانقلاب مسلطا غضبه بالدرجة الأولى على مراسلي الإعلام الدولي الذين تجرأوا على نقل صورة مختلفة لما يريد النظام ترويجه. كانت مذبحة رابعة إحدى أهم الصور التي يفترض أن لا يلتقطها الإعلام. ومثلها يفترض أن تبقى قصة الاعتقالات الواسعة النطاق، والتعذيب في السجون، وقتل المتظاهرين، وأحكام الإعدام بلا محاكمة عادلة، والتوقيف الاحتياطي فترات غير محدودة والمحاكمات العسكرية للمدنيين، وغيرها من أشكال انتهاكات الحقوق والحريات، كان يجب أن تبقى في العتمة. ليكن شوكان، إذن، عبرة لهؤلاء الذين يصرون على مزاولة مهنة الصحافة التي باتت ممنوعة باسم الأمن القومي، إذا ما خرجت عن التطبيل، لتسمي الأمور بأسمائها، خصوصا عندما تعبق هذه الأسماء برائحة الدم. كانت مذبحة.

A6CF6800-10AF-438C-B5B5-D519819C2804
فاطمة العيساوي

أستاذة لبنانية في جامعة إيسيكس البريطانية. ترأست بحثا في تأثير عملية الانتقال السياسي على الإعلام المحلي في دول الثورات العربية. صحافية مستقلة ومدربة وخبيرة في التشريعات الاعلامية في العالم العربي.