Skip to main content
"ذا غرين بارك كارتيبي"... لن نعود أدراجنا
أبو طالب شبوب
(من إحدى نوافذ ذا غرين بارك كارتيبي)

كان ذلك قبل أكثر من سنة ونصف من الآن، وبالضبط في مارس 2015، حين توفّرت لديّ بضعة أيّام راحة. أيّام يمكنك أن ترتاح فيها، ولكن بالطبع لا يمكنك الذهاب إلى الجزائر لقِصرها، إذ لم تتجاوز الأسبوع. كانت الوجهة إذن إلى بلد قريب من الدوحة وتذاكره وفنادقه رخيصة، وهكذا استقرّ الرأي على تركيا.

الفكرة كانت استئجار سيارة والطواف بها في الشوارع والتمتع بمنظر الثلوج، استأجرتُ السيارة الأرخص يومها، وكانت سيارة نيسان من نوع "ميكرا"، وانطلقت رفقة عائلتي الصغيرة من شوارع إسطنبول إلى أنقرة، ومن ثم إلى كبادوكيا باتجاه الجنوب، ثم الالتفاف إلى منطقة كارتيبي؛ وهي منطقة جبلية مثلِجة وفيها فندق رائع كما أخبرت عنه، وهو (The Green Park Resort Kartepe).


لن نعود أدراجنا
رحلتنا من كبادوكيا إلى الفندق تبعد أكثر من 600 كيلومتر، ولذلك انطلقنا باكرًا ووصلنا إلى نواحي كارتيبي في حدود الساعة الخامسة قبيل الغروب، كان الثلج يصنع منظرًا خياليًا ويوحي بأن البرد سيشتد كلما توغلنا في عمق الجبال باتجاه الفندق.

كان ابني نائمًا، وجهاز "الجي بي أس" يقود رحلتنا، تعثرنا بضع مرات إذ كانت الطرق التي يدلنا عليها تنتهي بحاجز يمنع المرور، أو نجد أنها طرق مهجورة لا تناسب عضلات سيارتنا الصغيرة فنعود أدراجنا.

تجنبت سؤال السائقين عن الطريق المؤدية إلى الفندق، طالما أن "الجي بي أس" يعمل وفق آلية التصحيح الذاتي؛ فكلّما وجدت طريقًا مغلقًا غيّرتُ المسار، وأعطاني الجهاز خيارات جديدة لطرق تؤدي إلى الفندق.

بعد عدة التفافات، عثرنا أخيرًا على طريق صاعد إلى رأس الجبل بدون حواجز فانطلقنا، حسب الخريطة التي كانت تظهر على الجهاز، ولكن الطريق الجبلي المحفوف بالثلوج والأشجار السامقة، راح يضيق شيئًا فشيئًا.

تشاورت مع زوجتي: هل نواصل أم نعود إلى المدينة الراقدة أسفل الجبل. كان رأيها أن نعود أدراجنا وكان رأيي أن نواصل.


خيار سيئ
واصلنا السير باتجاه الفندق، ولكن الطريق كان يزداد ضيقًا، والانحدار يزداد حدّة، وأصبحت السيارة تتقدّم بصعوبة بالغة؛ ضاق الطريق حتى لم يعد ممكنًا أن تستدير بالسيارة لنعود في الاتجاه المعاكس، ولم يعد بإمكانها أنت تسير إلى الخلف أيضًا لصعوبة المنحدر.

في تلك اللحظات التي وصلت سرعة السيارة فيها إلى أقل من 10 كيلومترات في الساعة، نزل الرعب ضيفًا علينا، فالليل اقترب والظلام اشتدّ في مسلك وعر لا توجد به إنارة، والطريق ما زالت تضيق، ولا يبدو أننا في الاتجاه الصحيح وأسوأ ما في الأمر، أن خيار العودة لم يعد ممكنًا.

كنا مهدّدين بقضاء الليلة في العراء، طالما أن الجهاز يشير إلى أن الطريق أمامنا ما زالت طويلة، كان الولد نائمًا، وكان والده يحسُّ أنه أودى بالعائلة كلها إلى الهلاك، فالنوم في العراء في ناحية معزولة قد يودي بحياة الكبار فما بالك بطفل لم يبلغ السنتين.

يمكن لمكيّف السيارة أن يضمن الدفء داخلها بضع ساعات، ولكن كيف الحلّ لو نفد البنزين، حتى دعوة النجدة غير مضمونة في هذه القفار، نظر الوالدان إلى ابنهما النائم وأحسا للحظات أنهما مُجرمان إذ يواصلان السير رغم خطورته.


فعلها "الجي بي أس"
دعت الوالدة ربّها أن ينجيهم. إن لم يكن من أجلهما فمن أجل الطفل النائم في الخلف، وظلت تردّد أدعيتها فيما وصل سمك الطريق إلى المسافة التي تفصل عجلتي السيارة عن بعضهما.

مع نهايات الغروب البارد لذلك اليوم، نبت من العدم شيخ يقف على طرف الطريق، سأله القلِقان عن كيفية الوصول إلى الفندق فقال إنهما يسيران في طريق قديم تم إغلاقه، لكن عليهما المواصلة مسافة كيلومتر واحد تقريبًا حتى يجدا ممرًا صغيرًا يسيران عليه مسافة إضافية، وسيقودهما مباشرة إلى الفندق، كان ذلك أسعد ما سمعاه.. مسافة ثم ممرٌّ صغيرٌ .. ثم ها هو الفندق يبدو من بعيد.

حين وصلا إلى الفندق؛ ركنا السيارة في الحظيرة، أنزلا أغراضهما، وتحدّثا مع موظف الاستقبال الذي استغرب مجيئهما من الطريق المهجورة طالما أن هنالك طريقا معبّدة.

انتبه الوالد حينها، أنه لم يقم بتحديث جهاز "الجي بي أس" منذ أكثر من سنة، ولذا فإن خرائطه كانت قديمة، انطلق الوالدان إلى غرفتهما، شغّلا المدفأة إلى أقصى حدّ، وصاح الولد أخيرًا: ماما.. حليبي.