"ديسبيرادوس" وعزباوات السعادة: تعايشٌ مع الزيف

"ديسبيرادوس" وعزباوات السعادة: تعايشٌ مع الزيف

29 يوليو 2020
نسيم بيدراد: مأزق التعبير عن الذات (جايزون لافيريس/فيلم ماجيك/Getty)
+ الخط -

"ديسبيرادوس" للوران بالميجيانو فيلم سينمائي أقرب إلى التلفزيوني ("نتفليكس"، منذ 3 يوليو/ تموز 2020). هاجسه تسلية المتفرّجين عن أوهامهم، لا الأسلبة التي تمجّدها سينما المؤلّف. فيلمٌ كوميدي يركّز على اللعب بالكلمات للإضحاك. يُولّد الضحك هرمونات السعادة. الحاجة إلى الضحك كالحاجة إلى الأكل. حاجتان لم يتمّ إشباعهما قطّ. نادرة هي الحكايات المضحكة وهرمونات السعادة في المجتمع، رغم أنّ الأفلام الكوميدية أكثر عدداً في تاريخ السينما. أفلام تروي حكايات الحمقى والمغفّلين الجدد، بينهم 3 شابات عزباوات، مشبعات بدروس تنمية الذات، ومبرمجات ليكنّ إيجابيات. واثقات من أنفسهنّ تقنياً وعاطفياً. يقدّمن محاكاة ساخرة لأيديولوجيا دروس التنمية البشرية.

تعيش البطلة الشابة ويسلي داريا (نسيم بيدراد) مأزقاً بين التعبير الحقيقي عن الذات، واختلاق الذكاء العاطفي بتركيب أقنعة لإرضاء الآخر لحظة التعرّف على الغرباء. إبراز الذكاء العاطفي يعني القيام بخطوات مجاراة الآخر وتفهّمه. تضغط الشابّة على نفسها في حوارات تكشف روحها المكسورة. تتعايش مع شعوذة الكوتشينغ (الواعظ العصريّ) بطريقة مُمنهجة. مثلاً: يقول لها جليسها إنّه مهندس معماري، فتردّ فورا: "أنا أحبّ المباني".

الأسئلة الصغيرة تكشف حجم الزيف الذي يتعايش معه الفرد. تستمرّ في افتعال الذكاء العاطفي. بدلاً من القرارات الغريزية الحدسية الصادقة، تقترح برامج التنمية البشرية اتخاذ قرارات ميكانيكية مفكَّر بها مسبقاً. يريد الكوتشينغ تحرير الفرد من البيولوجيا. يقول لها: "انزعي الأشواك التي في داخلك. القرارات التي تتّخذينها في لحظات الغضب تنقلب إلى كوارث. لا تغضبي".

النتيجة؟ مرونة مريعة لدى الشابة للتكيّف مع الوضعيات. عمودها الفقري صار مرناً لا ينكسر، حتّى حين تقفز من نافذة. بحسب دروس الكوتشينغ، هي تمارس تواصلاً فعّالاً إيجابياً، لكن هناك من يسمّي هذه الإيجابية المفبركة "نفاقاً".

 

 

ما الذي يجعل تحمّل هذا الضغط ضرورياً؟ حين يعمل الفرد ساعاتٍ طويلة، يتعب ثم ينام، فيستغني عن الكوتشينغ والحبوب المنوّمة. كلّما توفّر الفرد على وقت فراغ، صار بحاجة إلى دروس تنمية. من يدمن دروس الكوتشينغ، يكتشف الذات وتجاوز الإحباط. يفترض أنّه دائماً أمام خيارات كثيرة. إذاً، لن يكون أبداً في مأزق بفضل اللياقة النفسية. أي وهم هذا؟ هذا هو الخطاب المؤدلج. في الواقع، يعرض الفيلم عزلة شابّات في الثلاثين من العمر، لديهنّ أمل فادح بالتعرّف على شخصٍ مناسب. بطلة الفيلم عزباء. بسبب ضغط أمّها، وجدت أنّ أحسن طريقة للعثور على رجل هي السكوت. تصمت لتكون مقبولة. المهم هو الزواج لا الجنس. لاحقاً، تعمل البطلة في مؤسّسة تعليمية للمراهقات، وتكتشف أنّ المجتمع يُحضرهنّ لعيش الإشكالات نفسها، ولاتباع الأجوبة نفسها للزواج. تشرح البطلة للراهبة أنّ مدرّب التنمية البشرية يقول إنّ المرأة لا تحتاج إلى رجلٍ كي تكون سعيدة. يمكنها الاعتماد على نفسها لصنع الخير لنفسها. تصفّق الراهبة لذلك.

تقترحُ المعلمة العزباء بديلاً: درس التنمية البشرية الذي يقتضي الاعتماد على النفس. إلى هنا، لا خلاف. بعد هذا، يظهر أنّ الراهبة تهتمّ بالاستقلالية الروحية، بينما العزباء تقصد استقلالية جسدية بالاستغناء عن الرجال. كيف؟ بممارسة العادة السرية. تكتشف الراهبة الهوّة الرهيبة التي تفصلها عن المعلّمة العزباء. ما الذي يجعل الكوتشينغ ضرورياً للنساء خاصة؟ الوساوس والقلق في الحياة المَدينية المتقلّبة، والمغرقة في الفردانية. في سنّ الثلاثين، تحتاج الشابة إلى صديقة تفهمها، فلا أمل في العثور على حبيبٍ. تبحث المعلّمة العزباء عن شابٍ وسيم رومانسي وملائم للزواج، أي لديه دَخل عالٍ ومنزل وسيارة. المشكلة أنّه نادراً ما تجتمع هذه الصفات في فرد واحد، وحين تتوفّر فيه، لا يريد الزواج. مصيبة.

مع الزمن، تكتشف المعلمة أنّ الشابّ الذي تبذُل أقصى جهد للحصول عليه لا يستحقّها. للصدمة وقع وألم. حين تسمع الصديقات صوت المتوجّعة، يتساءلن إنْ كان هذا صوت شخص تُقطع عظامه بمنشار. مهمّة الصديقات، تلميذات الكوتشينغ، استقبال صديقتهنّ المصدومة لتبكي على صدورهنّ، ولتعزيتها بعد انهيار آخر علاقة. يتّضح أنّه، في زمن العلاقات السريعة، تعتبر العزباء أنّ حبيبها استبدلها، إذا لم يتصل بها 5 أيام متتالية. الحلّ؟ موعد مع شخصٍ لا تعرف شكل وجهه. تحاوره، و"تُشخِّص حالته". يعاني الوحدة والحنين. في هذا الموعد العشوائي، يصير تحليل الآخر تشخيصاً للأنا. ما وجه الشبه؟ يقال: "كلّنا كالقمر، له جانب مظلم". ما هو الجانب المظلم في الشخصية؟ ما الجانب الذي يُدفع إلى الضوء من الشخصية؟ خيبات نساء هاربات من هيمنة الحياة المادية على المدن البورجوازية. أحياناً، ينجح تسويق الوهم، وتسيل الدموع.

تركّز الكوميديا على المفارقات. لذا، هناك شابّة واحدة تمتلك حسّاً نقدياً، وترصد الشعوذة المُمنهجة التي تسيطر على صديقتيها. شابّة تغذّي السخرية مما يعيشه المجتمع كبديهيات.

في الفيلم شخصيات متباينة الأمزجة، كي لا تتطابق الشخصيات في السلوك والمعجم. المُدهش أنّ تلك الشابّة ذات الحسّ النقدي تناقض نفسها في لحظة ضجر، فتستسلم للكوتشينغ. تستريح، ويصير المستقبل واضحاً أمامها. يتّضح أنّها ليست عزباء، بل ربع متزوّجة. في الفيلم شخصيات شائعة في المجتمعات (في المغرب، هناك 8 ملايين عزباء)، لأنّ المنتج يخاف ألا يتجاوب المتفرّجون مع شخصيات منتقاة من وسط مغلق. شخصيات عادية، يضع الكوتشينغ خِصالها على الطاولة لتحلَّل وتُقطّع أحلامها. حينها، تلجأ الشخصية إلى مكر دفاعي لحماية كينونتها من التعرية.

في مجتمع لا يريد الرجال فيه الزواج والإنجاب، وبعد الجهد الذي تبذله لاستمالة رجلٍ، تكتشف العزباء أنّ المرشّح الأكثر وسامة ربما لا يكون الأصلح للزواج في نهاية المطاف. هذا درس كوميديا إيجابية، لا عبثية. لنهايةٍ سعيدة، تعثر ويسلي صدفةً على زوجٍ قريٍب منها، بينما كانت تبحث عن البعيد. لهذا الحدث سوابق. في رواية سيرفانتيس، ترك دون كيخوته حبيبته إلى جانب قريته، وخاض مغامراتٍ بحثاً عنها في الجبل. مات الفارس أعزب.

المساهمون