"دار الأيتام" لسادات: اتقانٌ إلى حدّ الكمال

"دار الأيتام" لسادات: اتقانٌ إلى حدّ الكمال

23 ديسمبر 2019
"دار الأيتام": حياة قاسية (الملف الصحافي للفيلم)
+ الخط -
أثار "ذئاب وقطعان" (2016)، أول روائي طويل للأفغانية شهر بانو سادات (1990)، إعجاب كثيرين. بين الروائي والوثائقي، يسرد الفيلم حياة قرية أفغانية، بأسلوب "الواقعية الشعرية"، ففيه واقعية وشاعرية كثيرتان، تمتزج إحداهما بالأخرى في تناسق وحميمية، يصعب الفصل بينهما. هذا لا يحصل دائماً، فهناك أفلام فيها شيء من الواقعية وشيء من الشاعرية، أو مظهر من مظاهرهما، يُمزجان معاً على نحو ما، بشكل غير متجانس تماماً.

هذا أثار فضولاً لمشاهدة فيلمها الثاني، وأيضاً بعض القلق. فـ"دار الأيتام" (2019)، المُنجَز بعد تجربة أولى ناجحة، ربما يُخيّب الآمال. لكنّه، كالأول، ساطع. ملخّص الفيلم يُغذّي مخاوف، فهناك مراهق (15 عاماً) ينشأ في شوارع كابول، ويعيش بفضل تهريبات بسيطة وأعمال صغيرة غير مشروعة، كبيع بطاقات أفلام بوليوود في السوق السوداء، فتُلقي الشرطة القبض عليه، لكنها تزجّ به في دارٍ للأيتام.

هناك توقّع بوقوع حدث درامي مأساوي، أو قصّة نجاح على الطريقة الأميركية: طفل شارع يمتلك عبقرية تُبهِر. لكن سادات أرهف من الوقوع في فخّ كهذا. فبطلها قُدرة (قُدرة الله) يتأقلم مع عالمه الجديد. هو ليس بطلاً ولا شريراً ولا جميلاً ولا قبيحاً، بل إنسان عادي مُقدَّم كما هو، على حقيقته، ويُعامَل بواقعية "ذئاب وقطعان".

كأيّ شاب في مثل عمره، يُغرَم قُدرة بشابّة في الميتم، فدار الأيتام مختلطة حينها. يحدث هذا عام 1989، أي في الفترة السوفييتية، قبل وقتٍ قليل على وصول طالبان إلى كابول. يُقيم صداقات، ويتعرّض لعدوانية مُقيمين يبحثون عن زعامة وسطوة على الآخرين، وهؤلاء ليسوا وحوشاً تماماً. يقبل قواعد الحياة المشتركة في الميتم، من دون تردّدٍ في انتهاكها حين تتاح له الفرصة، فيهرب إلى البساتين مع رفاقه المفضّلين، ويُمضي وقتاً في السباحة، في أجواء يشوبها مرح طفولي. قدراتو، كما يدعوه الرفاق، يتابع بعض الدروس بمتعة، حالماً، بين حين وآخر، بالمعلّمة الروسية الجميلة. هو ليس طالباً مجتهداً مهووساً بالدرس، بل فتى يعيش حياة طبيعية في دار للأيتام. حياة ليست صارمة بل إنسانية، ينظّم القسم الداخلي فيها مرشدٌ حازم لكنه عطوف، يعاملهم بحبّ واهتمام.

لا مأساة ولا دموع، بل واقعية قابلة للتصديق. واقعية عادية، تمزج الرقّة بالتعاسة في بشر، مع صغائرهم وضعفهم وشرورهم، وأيضاً مع خيرهم و إخلاصهم وصدقهم واندفاعهم في صداقاتهم. لا تتجلّى هذه الواقعية الحقيقية للمؤلفة المخرجة في تسويد الصورة، ولا في تجميلها، فهي واقعية حياة مُشكّلة من خلافات وآلام وموت، لكن أيضاً من بهجات صغيرة، تتيحها مباريات الشطرنج، وحضور أفلام بوليوود. كما يسمح بها سحر المكان، بمرتفعاته ونهره وسمائه وضوئه البهي. لم يُصوِّر الفيلم في أفغانستان لأسباب معلومة، بل في طاجكستان، ذات الضوء الساحر المخيِّم على المنطقة.
شهر بانو سادات تُدرك ما هو أساسي. تحسّ بالإنسان، وتعرف كيف تمرّر الإحساس بحياة مشتركة نابضة إلى مجموعة مراهقين. تحسّ بالمكان والزمان، وتفلح في التعبير عن لحظات الصمت في الليل، تلك التي يجعلها بعضُ ضجيج بعيد محسوسةً أكثر. تبرع في استحضار الليل والسكون الساكن في جوانبه. برهافتها، لا تهتم فقط بواقعية سطحية خارجية، تُبرز حقيقة البشر عبر الحدث، بل أيضاً بتلك الواقعية المتخيّلة الداخلية. وكما في "ذئاب وقطعان"، حيث تُسْكِنُ تخيّلاتُ الفلاّحين الجبالَ بمخلوقات ماورائية، توحي بمشهدين في الفيلم، تحقّقهما بفرادة تصوير، وبطريقة شديدة الإقناع، فتظهر فيهما جنيّة من دون أية إثارة أو مؤثرات خاصة؛ فإن التخيّل في "دار الأيتام" يأتي من بطل يافع مُغذّى بالسينما البوليوودية، فتصنع المخرجة مشاهد أحلام على أغانٍ هندية، تقطع السرد وتتقاطع معه في آنٍ واحد.

يُحرّك "دار الأيتام" المشاعر هكذا لإنسانيته، وللإحساس بالحيوية الذي يثيره. فهذه حياة قاسية لليتامى، مليئة بالسواد. ومع هذا، فإنّ كلّ واحد من هؤلاء الشباب يواجهها، ومن دون أنْ يشكو، يتابع طريقه بشجاعة. ولعلّ، في هذه الشجاعة البسيطة والصامتة، تتجلّى خصلة أفغانية نموذجية.

هذا لن يكون محسوساً لولا أسلوب الإخراج، الذي (الأسلوب) يصعب تحديده. ربما تُشبه شهر بانو سادات ما يُقال عن كتّاب كبار: أسلوب متقن يبلغ حدّ الكمال، إلى درجة غير مرئية. كلّ شيء مرسوم برهافة ودقة وصدق. لا شيء يبرز أو يعلن عن حاله، ومع هذا فالنتيجة هي هنا، يؤخَذ بها من يشاهدها في كلّ لحظة. الإيقاع بطيء، من دون أنْ يكون الفيلم مملاً. الانتباه مشدود، لا يرتخي.
هل تمكن مقارنة هذا الأسلوب، السهل الممتنع، بأسلوب مخرجين يابانيين كبار، أمثال ياسوجيرو أوزو؟ المقارنة قاضية على المخرجين جميعهم، لكنْ معها هناك ما يذكّر بها: الإنسانية، وحضور المكان، وكثافة المشاعر التي تعتمل داخل الشخصيات من دون صراخ أو تقطيب، مع إحساس عميق بها.

"دار الأيتام" أخرجته أول امرأة أفغانية ذات مستوى رفيع، يُبشِّر بموهبتها الكبيرة (لها فيلمان قبله). شارك في برنامج "نصف شهر المخرجين"، في الدورة الـ72 (14 ـ 25 مايو/ أيار 2019) لمهرجان "كانّ"، ويُعرض حالياً في الصالات الفرنسية، لكن ليس لفترة طويلة، فهو فيلم أجنبي من الشرق، وليس عن امرأة عربية أو مسلمة مهمّشة، ولا مَشاهد فيه تدور في حمّام النساء، ولا عرس تراثيا، ولا اغتصاب، ولا مثلية جنسية، ولا مواعظ عن تحرّر المرأة.

المساهمون