يستفيد من مبادرة اليونيسف لتعليم المليون (شارل لومودون/فرانس برس)
لم يكن محمد يظنّ في يوم أنّه سوف يُضطر إلى ترك مقاعد المدرسة والعمل في السوق في سنّ مبكرة. لكنّ وفاة والده المفاجئة وفقر عائلته، دفعت بوالدته إلى إخراجه من المدرسة وإرساله إلى العاصمة الخرطوم للعمل ومساعدتها في تربية أشقائه الصغار. هكذا، بدأ الفتى البالغ من العمر 15 عاماً، رحلة المعاناة والشقاء في سوق العمل الهامشي، في مقابل مبلغ زهيد من المال.
قبل شروق الشمس، يكون محمد قد أخذ محلّه في الطابور، بغية استئجار "درداقة" وهي عربة من الحديد مع عجلة تُدفع باليد، مثله مثل أطفال كثيرين في مثل سنّه أو أصغر سناً منه. وبعد استئجارها، يبدأ بنقل بضائع الزبائن في الأسواق المختلفة، إمّا في البرد القارس أو تحت أشعة الشمس الحارقة. وذلك في مقابل مبلغ زهيد، ما بين جنيهين سودانيين وثلاثة جنيهات (0.30 - 0.50 دولار أميركي). يُذكر أنّه يسدّد نحو عشرين جنيهاً (ثلاثة دولارات) في نهاية يوم العمل لمؤجّر الدرداقات، ويرسل ما تبقّى في نهاية الشهر لوالدته في القرية.
يخبر محمد أنّ ظروفه السيئة دفعته إلى العمل وترك مقاعد الدراسة، على الرغم من تفوقه وحلمه في أن يصبح طبيباً في يوم. لكنّه اليوم، بات بإمكانه أن يحلم من جديد، تماماً كغيره من الأطفال العاملين على الدرداقات، بإكمال تعليمه قريباً. وذلك، بعد المبادرة التي أطلقها معتمد محلية مدينة بحري والقاضية بإنشاء مدرسة لتعليم أطفال الدرداقات في أحد أسواق المدينة. وتستفيد المبادرة من المسجد الموجود هناك، عبر ترتيب جزء منه وتجهيزه بعدد من الطاولات والكراسي لينتظم فيه أكثر من مائتي تلميذ من فئات عمرية مختلفة، تتراوح ما بين أربعة أعوام و24 عاماً. ويستطيع هؤلاء استقطاع أربع ساعات من دوام العمل، لتلقّي قدر من التعليم، وذلك في مقابل تمليكهم درداقات كمحفّز للاستمرار.
"حلم النيل" هو الاسم الذي اختير للمدرسة، إذ هي بمثابة حلم لهؤلاء الأطفال والفتية. وبالفعل، سُجّل إقبال كبير من قبل هؤلاء العاملين في السوق، فيما حظيت باهتمام آخرين يعملون في مواقع مختلفة سبق وحُرموا من التعليم.
تفيد إحصاءات منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف) بأنّ نحو 3.1 ملايين طفل سوداني هم خارج المدرسة، بسبب جملة ظروف، من بينها الاقتصادية والاجتماعية بالإضافة إلى ظروف الحرب الدائرة في عدد من الولايات السودانية وما تخلّفه من نزوح.
وتعدّ المدرسة التي افتتحت أخيراً في مدينة بحري لتعليم أطفال الدرداقات، هي الأولى من نوعها، وقد التزم معتمد المدينة إلى جانب اليونيسف بتوفير مستلزمات الدراسة مجاناً. وقد أكّد معتمد بحري أنّ برنامج تعليم الأطفال العاملين في الأسواق في تطوّر مستمرّ، وأنّ ما تمّ هو خطوة سوف تعمّم على كل الأسواق، لدفع هؤلاء إلى الدراسة والتخفيف من النقص التربوي والمساعدة في تحسين مستقبل هؤلاء وأسرهم.
وتقول مديرة المدرسة نعمات سنهوري لـ"العربي الجديد" إنّ "نحو 220 طفلاً عاملاً في السوق المركزي شمبات، مقر المدرسة، تسجلوا للالتحاق بها. لكنّ من انتظم منهم لم يتعدّ التسعين، إذ عاد الآخرون إلى ولاياتهم بسبب مواسم الزراعة، لا سيما أنّ الأطفال والشباب العاملين بالدرداقات بمعظمهم، هم من الولايات". وتشير إلى "برامج محددة لتعليم هؤلاء وفق خطة وضعتها وزارة التربية والتعليم بالتنسيق مع المجلس القومي لتعليم الكبار ومحو الأمية ومنظمة اليونيسف". وقد صُنّف هؤلاء بحسب ثلاث فئات وفق أعمارهم، ما بين سبعة وتسعة أعوام، ما بين عشرة و14 عاماً، وما بين 15 و24 عاماً. أمّا المنهج، فهو مركّز ومجاز من قبل وزارة التربية، حتى يتمكّنوا من الالتحاق على أساسه بالمدارس العادية ومواصلة تعليمهم وصولاً إلى الجامعات.
منذ عام 2013، تنفّذ "اليونيسف" برنامجاً لتعليم الأطفال والشباب خارج المدرسة، عبر خطة متكاملة تمتدّ حتى عام 2017، وذلك بالتعاون مع الحكومتين السودانية والقطرية. وقد استهدف البرنامج نحو مليون شخص من الفئات العمرية المشار إليها آنفاً.
في هذا السياق، يقول مسؤول الشباب واليافعين في قسم التعليم في "اليونيسف" طلال صالح إنّ "مبادرة تعليم المليون، انخرط فيها عدد مهم حتى الآن وقد حققت نجاحات. عدد من هؤلاء التحق بمدارس أخرى، فيما توجّه البعض إلى الجامعات محققين نسب قبول عالية". ويوضح لـ "العربي الجديد" أنّ "اليونيسف دعمت خطوة معتمدية بحري المتعلقة بمدرسة أطفال الدرداقات وتكفلت بتوفير مستلزمات الدراسة حتى لا تعرقل الخطوة بسبب الأعباء المالية". ويشير صالح إلى "توسّع صوب السوق المركزي في بحري. وقد تسجّل بالفعل نحو 250 طفلاً وشاباً عاملاً هناك للانتظام في الدراسة. وذلك إلى جانب توفير طرق تعليم للعاملات المنزليات في الأحياء. وقد تسجّلت بالفعل نحو 183 عاملة نظافة للانخراط في التعليم". وشدّ على أنّ "الهدف هو التمكّن من إعلان خلوّ السودان من أيّ طفل غير متعلم".