"حسين البرغوثي" الذي في خاطري

"حسين البرغوثي" الذي في خاطري

05 مايو 2014
حسين البرغوثي / عماد حجّاج (العربي الجديد)
+ الخط -

إن كان الفارق بين ذكرى ولادة حسين البرغوثي وذكرى وفاته، أربعة أيام، فلا بد من الانحياز للولادة، علّنا نضيف عمراً إلى عمره القصير، ونحتفي بالحياة المكثّفة بدل التحسر على الرحيل السريع. إلا أن الاحتفاءَ بالحياة لا يمنع من التوقف ملياً عند أوجه الموت، وتحديداً الموت الخاطف، حين يرحل الناس قبل خريفهم.

للموت وجوه كثيرة، ولعل أوجعها هو الصمت، أو حرمان الميت من حقه في الرد، فكيف إن كان مثقفاً إشكالياً وناقداً ناقضاً للبنى التي استسلم لها الآخرون؟ والأنكى أن الموت المباغت يحرم غريمه من استنفاد وقته في قول ما لديه. فكيف وقد اجتمعت في حالة حسين البرغوثي النكايتان، عوز في الوقت وحرمان من حقه في الرد؟

لا شيء يغري الطامعين والكارهين والمستغلين مثل المشاريع غير المكتملة، يجدون فيها مآرب أخرى غير تلك التي أرادها أصحابها. وبدعاوى التبني والانتماء إلى المشروع والرؤية والرسالة والموقف، يَستحوذون على إرث المثقف، فيُعجن مرات ومرات في غيابه الحتمي، ويبلغ الأمر أقصى درجات القبح والابتذال حين يفرَّغ المشروع برمته ولا يبقى منه إلا الاسم برّاقاً لامعاً لا يحيل إلى شيء، مجوّفاً لا يحوي أدواته ومقومات إعماله في الواقع والثقافة والفن.

في عوالم الخيانات الفكرية، هنالك صنف متخم يشغل حيزاً شاسعاً يليق بكل الجور والانتهازية التي يجابه بها الراحلون من الداعين إليهم. سيحوّلونك، يا حسين، إلى صورة أو ترويسة في بروبوزال، سيعلكون ضوءك الأزرق حتى يكاد يخبو، وينغصون عليك عزلتك بين اللوز، ويقولون عن شعرك كلاماً لن تفهمه أنت، وسيرفق كل هذا بمهرجان مطبوخ على عجل.

سيسقطون من ذكرك رؤيتك الفكرية وتصورك النقدي حيال "حالة" الثقافة الفلسطينية في عهد السلطة، بل كل السلطات، وسيتناسون ـ عن سبق إصرار وترصد ـ موقفك من المؤسسة الثقافية وإعادة إنتاجها لشبكة مصالحها، حين يدشنون "غاليري" أو "متحف" أو "سوبر ماركت" ثقافي ويقدّمون للأمر بمقطع شعريّ مبتور من إحدى قصائدك.

سيصدّرون الغائم فيك، القلقَ المتوترَ المضطربَ، الغائبَ عن وعيه في طبقات تصوفه، السائلَ صعبَ الإمساك والتحقق. وسيهملون الواضح الحاد الصريح اللاذع المتعيّن، سيحددون أي حسين نعرف وأي حسين نقرأ. ثم وعلى حين يقظة أقرؤك بعد سنوات في صفحات عابرة كما أنت، بلسان لا يحتمل التأويل تشخّص 25 سنة من كرنفالنا الثقافي:

"منذ السبعينات كان هناك مهرجانات وطنية، ولكن الجديد في المهرجانات الحالية افتقار المهرجانية الآن لهذا التوتر الذي كان يعني صداماً مع الاحتلال. أما الطقوسية الحالية فتشبه ما يسمونه في ما بعد الحداثة بالحالاتية والحالاتيين. إنها فرجة، حالة خفيفة، أي أن هذه الحالاتية هي جزء من الطقوس في حالة ولادة الفكرة المفسِّرة على أرض الواقع في هذه المرحلة الانتقالية، وأحياناً ـ وهذه جملة أرجو أن لا تثير وزارة الثقافة أكثر من اللازم ـ يطغى لدي شعور بأن هذه الحالاتية قد تكون أداة لعدم بناء بنية تحتية وثقافية، عبر الهوس بالمتلاشي، مثل معرض اللوحات الذي ينتهي بعد قليل رغم التكاليف الطائلة لمثل هذه الحالات. وهناك ما يمكنني أن أسميه بطقوس كتابة "البروبوزلز"، المهنة الهامة الجديدة، وطقوس النضال الأولى امتزجت الآن بطقوس الانتفاعية المفتوحة"*.

اطمئن يا حسين، لم يختلف شيء، تكاثرت "البروبوزلات" وكتَبَتُها، ووجدت "الانتفاعية المفتوحة" مسميات ألطف، وتحوّل المهرجان إلى متحف دائم. ومع كل هذا، ما زلنا نبحث عمن يحفظ غيبتك، ونستعير ـ متأسفين ـ من مظفر النواب إحدى نبوءاته:

لو "عدتَ" اليوم

لحاربك الداعون إليك.


* حسين البرغوثي، مداخلة في ندوة "الحركة الفنية الفلسطينية"، مركز الفن الشعبي في البيرة 26. 27 تشرين ثاني/ نوفمبر 1995. الدراسات الفلسطينية. ع 26. ربيع 1996. ص175.

المساهمون